نيران غزة تحجب معاناة النازحين السوريين: حملة الاضطهاد مستمرة

تستمر مداهمات مساكن ومخيمات اللاجئين في مختلف المناطق اللبنانيّة (لوسي بارسخيان)
تستمر مداهمات مساكن ومخيمات اللاجئين في مختلف المناطق اللبنانيّة (لوسي بارسخيان)


قد يبدو للوهلة الأولى، أن لبنان الرسميّ والشعبيّ غارقٌ في سيلٍ من الأخبار والمستجدات المُتعلقة بالحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة وسائر الأراضي الفلسطينيّة المُحتلة، وأن جميع الأزمات والصراعات الداخليّة قد حُيدت مؤقتًا، لصالح المشهد الفلسطينيّ. لكن هناك وتحت حُجب الهمّ العام المُستجدّ، لا يزال ملف اللاجئين السّوريّين يعتمل، مُتخذًا الوتيرة المتصاعدة نفسها وبالروحيّة الانتقاميّة والتّحريضيّة ذاتها. أما اللافت، مع توالي الأنباء عن المجازر التّي يرتكبها المستوطن بحقّ الفلسطينيّ، هو هذا الصمت المُريب عما يحدث الآن في الشمال السّوريّ، من هجومٍ جويّ وصاروخيّ مستمر منذ ما يربو عن الثمانيّة أيام على يدّ قوات الأسد وروسيا، مخلفًا عشرات القتلى ومئات الجرحى والمصابين، من المدنيين والمُسعفين.

شكليًّا، يبدو أن هذا الصمت منطقيٌّ مقارنةً بسطوة الأحداث الفلسطينيّة. أما ضمنيًّا، فلا يعدو سوى كونه غطاءً يستر سقوط حجة لبنان الرسميّ وكذلك الشعبيّ، فضلًا عن الحجة القبرصيّة والتّركيّة (وبعض الدول الأوروبيّة)، لإعادة اللاجئين السّوريين، على اعتبار أن سوريا أصبحت آمنةً لهم. وبالتّالي، من الممكن إعادتهم قسريًا، من دون الإتيان بأيّ حلٍّ مُرضِ للصراع السّوريّ، وكذلك بوضع إجراءات كافية تُراعي أوضاع الهاربين من بطش الميليشيات المُسلّحة والاقتتال الدمويّ والقمع السّياسيّ. ناهيك بأولئك المهاجرين غير الشرعيين، المنهكين من تردي الأوضاع المعيشيّة في سوريا.


خواف عام

أما المراقب للمشهديّة اللّبنانيّة، لا بد له من أن يستشف هذا التّوجس والتّشتت السّياسيّ والتنظيميّ، الذي انسحب ليصير حالةً من الخواف العام، التّي اعتلت الشارع اللبنانيّ، وفيما قد أشرنا في تقاريرنا السّابقة للحواجز الأمنيّة التّي أقامها بعض المواطنين في شتّى البلدات اللّبنانيّة، وتحديدًا في ضواحي بيروت الشرقيّة وكذلك منطقة الأشرفيّة (راجع "المدن")، فإنه ومن خلال المراقبة الميدانيّة، رصدت "المدن" انتشارًا لمثل هذه الحواجز في مختلف المناطق في بيروت وضواحيها كضاحية بيروت الجنوبيّة، بعضها يعود للمواطنين (الذين تولوا تطوعًا مهمة "تنظيم اللجوء" بصورةٍ عنيفة ولا قانونيّة) فيما يعود بعضها الآخر لشرطة البلديات.

وظاهرة الحواجز البشرية وحواجز الدراجات الناريّة، قد انتشرت بُعيد الإشكال الذي حدث بتاريخ 5 تشرين الأول في منطقة الدورة، والذي تخلّله اعتداء على مجموعة من اللاجئين على خلفية نزاعٍ شخصيّ، بين أحد اللاجئين وعدد من المواطنين، وما لحق ذلك من خروج تجمعات احتجاجيّة شعبيّة، مناهضة لوجود اللاجئين، تحولت فيما بعد لحملة شاملة. وقد عاينت "المدن" ميدانيًّا، وفي الأيام الأربعة الأخيرة المناطق التي حدثت فيها الصدامات وضواحي بيروت الشرقيّة، للتحقق من صحّة ما يتمّ تداوله عن انتشار لمُسلحين في الطرقات ليلًا. لكن يبدو أن ظاهرة الحواجز الشعبيّة قد انحسرت تدريجيًّا لتحلّ محلها حواجز لشرطة البلديات ولقوى الأمن الداخليّ، التّي توقف كل من يُشتبه بكونه سوريًّا وتعتقل من لا يحمل أوراقًا قانونيّة.

فيما تحدثت مصادر متابعة أن هؤلاء يتمّ نقلهم إلى المخافر والتّحقيق معهم، ومن ثمّة يتم ارسالهم للأمن العام وفرق الجيش الحدوديّة لترحيلهم. ووحده شهر أيلول والأيام العشرة الأولى من شهر تشرين الجاري سُجل فيهما ما يربو عن الثلاثة آلاف حالة ترحيل قسريّ. وهذه العدد بات المُعدل الشهريّ لحملات الترحيل التّي يقوم به الجيش، فيما تستمر مداهماته لمساكن ومخيمات اللاجئين في مختلف المناطق اللبنانيّة وتحديدًا في البقاع الأوسط والشماليّ وبلداتهما، وفي الشمال اللّبنانيّ، وكذلك مصادرة الممتلكات ومركبات النقل، حتّى لو كانت قانونيّة، بحسب ما أشار تقرير ACHR الأسبوعيّ.


قرارات حكوميّة "حاسمة"

فما هي الإجراءات التّي اتخذتها السّلطات اللّبنانيّة وتحديدًا الأمنيّة وتلك التّابعة لوزارة الداخليّة، لتدارك محاولات البعض لتحقيق ما يُسمى "الأمن الذاتيّ"؟ وهل وضعت إجراءات كافية لوقف الاعتداء المُستمر على كل من اللاجئين وبعض اللبنانيين واللبنانيات (المشتبه بكونهم من مجتمع الميم- عين)، التّي باتت جزئية دائمة في المشهد اليوميّ؟ أو هل باتت هذه الحواجز "الأمنيّة"، ظاهرةً طبيعيّة، أرخت بشرعيتها المستمدة من الغضب العموميّ، على كاهل كل من اللاجئين واللبنانيين؟

في الواقع، وعوضًا عن تدارك هذه الفوضى وسوء الانتظام العام، لم تقمّ الجهات الحكوميّة بوضع أي مُخطط جديّ وحلّ حقيقي على متن متابعتها لقضية "تنظيم اللجوء"، بل عمدت وعبر وزير الداخليّة بسام المولوي، لمفاقمة هذه الظواهر من خلال الإيعاز الذي قضى على القائمقامين بالتعميم على البلديات والمخاتير منع قبول أي نوع من الهبات (مشروطة أو غير مشروطة) منعًا باتًا من أية جهة كانت في كل ما يتعلق بالنازحين السوريين، وما قد يؤثر على بقائهم في لبنان وعدم عودتهم الآمنة إلى بلدهم. وكذلك الإيعاز إلى القائمين التعميم على البلديات والمخاتير الإفادة دوريًّا كل خمسة عشرة يومًا عن التدابير المذكورة في التعميم 74 حول تنفيذ قرارات مجلس الوزراء بشأن أزمة النزوح السّوريّ. بل وهدد المولوي بمحاسبة كل من يُقصّر في هذه الإجراءات.

هذا فيما تبين ومن خلال التقرير الدوريّ الذي أرسله جهاز أمن الدولة إلى مجلس الوزراء، حول تنفيذه لمندرجات قرار مجلس الوزراء، الذي نوقش في الجلسة التّي عُقدت يوم الخميس 12 تشرين الأول، المتعلق بموضوع "النزوح السّوريّ"، أن المديرية العامة لأمن الدولة توقف يومياً عدداً من السوريين وتجري معهم تحقيقات استعلامية، وتؤخذ عنهم معلومات شخصية وبيومترية تحفظ لديها، لإشعارهم أنهم تحت المراقبة الدائمة وللحد من المخالفات. كما تقوم دوريات من هذه المديرية بتفتيش مخيمات النازحين بحثاً عن السلاح أو أية ممنوعات.

وإلى هذا الحدّ، تبدو الحكومة مُصرةً على موقفها بالرغم من كل المفاوضات والضغوط الدوليّة، فيما تتصاعد وتيرة الهجمات العنصريّة الشعبيّة بحقّ اللاجئين، وذلك بالتّزامن مع حركة النزوح المستجدّة والخجولة من جنوبي لبنان، تخوفًا من تصعيدٍ إسرائيليّ عسكريّ، حيث راجت على وسائل التّواصل الاجتماعي وبعض الصحف المحليّة وكذلك على لسان عدد من المسؤولين، شائعات تُفيد أن اللاجئين الذين نزحوا من قرى تعرضت لاعتداءات اسرائيليّة كبلدة "الرميش"، التّي نزح بعض سكانها، قد احتلوا بيوت النازحين من اللبنانيين، و"عاثوا فيها الخراب، وحاولوا سرقتها". وشبهوا حركة نزوح السوريين بالمؤامرة، ما أدّى لتدخل رسميّ وأمنيّ للتحقيق في صحّة ما تمّ تداوله، فيما تبين لاحقًا أن اللاجئين قد فروا من القرى المحيطة وتحديدًا "عيتا الشعب" هربًا من حربٍ محتملة وللبحث عن ملجأ آمن، وبأعداد ضئيلة وسيرًا على الأقدام، فيما لم تسمح لهم بلدية رميش بالدخول إلى أراضيها، مخافة "الاستيطان" فيها.


وفيما يبدو أن هذه النزعة لمقارعة اللاجئين وتكدير عيشتهم، وطردهم كيفما اتفق، قد انفلتت من سياقها التّقليديّ، لتصير شماعة لكلّ الأزمات الداخليّة وحتّى الخارجيّة، بل وتحولت من طورها العنصريّ، لتصير موضع للمقارنة بين الضحايا. إذ استغل البعض الأحداث الفلسطينيّة الأخيرة، للشماتة باللاجئين واتهامهم بالتخاذل والتواطؤ، بدل البقاء كما المحاصرين في قطاع غزّة والقتال من أجل أرضهم.

تعليقات: