غزَّة وطن مرحليٌّ يعيش أهلُه على حافة الوجود ، أي أنَّ حياة أهلِهِ تقع تماماً على الخط الفاصل بين الحياة والموت ، فيُطِلُّون على الحياة من زاوية ضيقة وعلى الموت من زاوية أكثر إتساعاً ، ورُغم كلِّ ذلك فإنهم قادرون على المشاركة الفاعلة في إدارة حياتهم والشعور بجمالياتها ، والفرح بقليلها ، وإستخراج العظمة من قلب قهرها وظُلمها وسَحقها ، كما انَّ الغزَّاويين ورغم وجودهم في هذا الموقع الوجودي الحرج من العالم فإنهم أثبتوا أنهم قادرون على فعل المعجزات والمحافظة على أعلى درجات النبل الإنساني رُغم كلِّ ما يتعرضون له من توحُّشٍ وإجرام وإستباحة ، من قِبَلِ مجتمع الأقوياء والأغنياء والنافذين في إدارة هذا العالم ، الذين يَبدونَ وكأنهم للمحافظة على تفوقهم وتسلُّطهم وجبروتهم ، فإنهم مستعدون لمغادرة حضاريتهم وإنسانيتهم وقيمهم المدعاة ، والعودة إلى غابات توحشِّهم الأولى حيث لا قيمُ حاكمة ، إلا القوة والبطش والقهر والإخضاع.
غزَّةَ تقف اليوم بحقيقتها العارية أمام العالم وخاصة أمام الذين لم يشهدو تاريخ النكبة الأولى لفلسطين ، وتروي للجميع بإختصارٍ ، وبكثافة مأساوية ، حكاية فلسطين التي تتماوج حياتها بين أنياب الوحش الحضاري الغربي وبين ضمير العالم الحر ، بين وحشٍ إرتضى أن يُبيد شعباً ويطرده من أرضه ويشرِّده ، ليُحِلَّ محله مجموعةً بشريةً توارثت عُقد وأحقاد ونفاق التاريخ منذ آلاف السنين ، وأثبتت على الدوام عجزها عن الإندماج في المجتمع البشري كبقية شعوب العالم ، لإقتناعها بتميزٍ نوعيٍّ مُدَّعى ، وبإنتخاب إلهيٍّ حاسمٍ لها دون سواها ، إنتخابٍ غيرُ قابلٍ للبرهان والإثبات والإقناع ، هذا الإحتلال الإحلالي الإجتثاثي الذي ما زال الوحش الحضاريُّ الغربي يمارسه ويحميه منذ ما يزيد على الماية عام ، بغية السَّطو على ثروات المنطقة الطبيعية ومواردها البشرية ، ليؤبِّد رفاه شعوبه الإستعمارية بطريقة مُموَّهة ومخادعة ، ومغطاة بقشورٍ حضاريةٍ وثقافيةٍ وإنسانية فارغة من المعنى ومن المضمون.
إنَّ الكيان الصهيوني الذي أنشأه ويرعاه الوحش الحضاري الغربي تمكَّن على إمتداد قرنٍ من الزمان من تحقيق إنتصارات مادية هائلة ، دمَّر فيها الجزء الأكبر من فلسطين التاريخية وإنسانها وثرواتها وتراثها وحضارتها ، وإفتعل فيها مجازر ومذابح لا تُعدُّ ولا تحصى على إمتداد أرض فلسطين ، كما حارب وآذى كلَّ من ناصر فلسطين المظلومة وقضيتها العادلة في محيطها القريب والبعيد .
لكنَّه عجز عن إبادة شعب فلسطين وعن إستئصال إرادة التحرُّر لدى هذا الشعب المضحي والمعطاء ، وحافظ الفلسطينيون على حَملِهم شعلة مطالبتهم بالحرية والتحرر من الإحتلال ، وما زالوا يبدعون ويبتكرون أروع ملاحم المقاومة للمحتل ، غيرَ عابئين بحجم التضحيات التي تنوء بحملها الجبال الرواسي.
أمام هذا الأداء العالمي المخزي ، وأمام هذا الواقع المُرِّ والمعقَّد الذي تعيشه غزةَ اليوم ، وأمام الصمود الأسطوري الذي يقدمه الغزَّاويون ، لا تزال غزَّة تمثل بوقفتها المصيرية الشجاعة ، الأمل المتبقي ، ليبقى ذِكرُ فلسطين وشعبَها حيَّاً ونابضاً ، ويبقى أمل تحريرها من بين أنياب الوحش الحضاري الغربي ممكناً ، يقف اليوم أحرارُ العالم المناصرون لقضية فلسطين المحقة وأمام هذا العبث الطاغوتي العالمي الذي يستهدف وجودها وبقاءها ، يَطرَحُون اليوم سؤالاً كبيراً ومصيرياً وخطيراً هو " أيُعقلُ أن يكون مصير فلسطين وشعبُها ، الإبادة الجماعية على غِرار ما حصل للهنود الحمر ، سكان أميركا الأصليين ، بعد أن قدَّمَ الفلسطينيون كلِّ هذه الشلالات من الدم ومن الشهداء ، وبعد تحمُّلهم كلِّ هذا الظلم والقهر الذي تعرُّضوا له هم وأنصارهم في هذا العالم ؟ ".
وسرعان ما يأتي الجواب على لسان أصحاب الضمائر الحية في عالمنا اليوم "فلسطين إحتُلَّت يوم إستفرَدَ فيها وحش الحضارة الغربية المُدَّعاة في غفلة من الزمان ، أمَّا اليوم ، فإن فلسطين بَنَت خُبُراتٍ ، وتعلمت من تجاربها القاسية والصعبة دروساً عظيمة حُفِرَت في وعيها وفي ذاكرتها ، كما أنَّ لفلسطين اليوم أنصارٌ كُثَرٌ أقوياء وأشداء على إمتداد العالم ، تخرَّجوا من مدرسة مقارعة الإستكبار والإستعمار على مدى قرونٍ متمادية ، وهم يقتربون اليوم من مرحلة الإقتدار التي تُمكِّنهم من تغيير وجه العالم الذي لوَّثه وحش الحضارة الغربي ، وباتوا أقرب من أي يومٍ مضى أقدر على أن يعيدوا للإنسانية ألقها وأبعادها الوجدانية الخيرة والنبيلة ، وإنَّ أحرار العالم اليوم ، لن يتركوا فلسطين مرةً أخرى فريسة لوحوش الحضارة الغربية ، وسينقذوها ويساعدوا شعبها الحر الابي المعطاء في سعيه للتخلص من نير وتسلط الإحتلال الظالم والبغيظ ومن تسلط الوحوش الكاسرة التي لا ترحم ولا تعرف معنى الإنسانية ، وسيثبت المستقبل ما أثبته التاريخ قبله ، أن بساطة وصدق وبراءة الانبياء والرسل والقديسين ، أعظم وأقوى وأشدُّ تأثيراً من بطش وقوة وتسلط الفراعنة والجبابرة ، وستثبت فلسطين وشعبها وأنصارها الكثر ، أن ضمير العالم الحرِّ والصادق والمُخلِص أقوى وأمضى وأفعل من أنياب ومخالب وأموال وسلاح وتقنيات وخدع بني صهيون ووحوش الحضارة الغربية بزعامة أمريكا.
وستفتح فلسطين بعد تحرُّرها وخلاصها أبواب المطالبة بحقوق شعوب ظُلمت وإضطُهدت وسُحقت على أيدى الوحوش ، أدعياء الحضارة الغربية ، ليعود الحق لأصحابه ، وليكتب التاريخ كما هو حرفيّاً لا كما زوره وحرَّفه الطُغاةُ الظَّلمة.
* عدنان إبراهيم سمور
باحث عن الحقيقة
18/10/2023
تعليقات: