انتحار جديد بـ الأمن الداخليّ: ظاهرة مرعبة تحصد عشرات العسكريين

سجلت في السنوات الأخيرة عشرات حالات انتحار بين صفوف العسكريين (Getty)
سجلت في السنوات الأخيرة عشرات حالات انتحار بين صفوف العسكريين (Getty)


فيما يطغى المشهد الأمنيّ على باقي المشاهد، لا تزال وفي الزاوية تعتمل النكبة المعيشيّة، التّي يرزح تحت وطأتها سواد السكّان، لتُذكّرهم دومًا أنها القابض على مصيرهم وفي كل السّيناريوهات.. إذ فقدت مؤسسة قوى الأمن الداخليّ، صباح اليوم، الثلاثاء 24 تشرين الأول الجاري، واحدًا من عناصرها الذي قرّر إنهاء حياته، في مركز عمله الأمنيّ، كصفعةٍ "رمزيّة" بوجه ظروفه الماديّة الخانقة، وكتعبيرٍ عن القنوط واليأس المطلقين، اللذين يجتاحان صدور باقي العناصر المُفقرة، والتّي باتت وفي أسوأ اللّحظات، وأحلكها، تلجأ للموت المقصود والمُدبر، هربًا من الاستهلاك المزمن للأسى وسوء الحال، وانتفاء الأفق.


انتحار أمام السّفارة الألمانيّة

وفي التّفاصيل، أقدم المعاون، في قوى الأمن الداخليّ (جهاز أمن السّفارات) بلال علي عبود هرموش (38 سنة، متأهل ولديه أربعة أولاد)، من قرية السفيرة قضاء الضنيّة شمالي لبنان، ومن سكان طرابلس القبة، على الانتحار، مطلقًا النار من مسدسه الأمنيّ على نفسه، بعد اشتداد الضغوط المعيشيّة والأعباء الاقتصاديّة على كاهله، وذلك، في مكان خدمته عند نقطة الحراسة في السّفارة الألمانيّة في منطقة الرابيّة – قضاء بعبدا. وقد جرّت الحادثة صباح اليوم الثلاثاء، فيما وُجدت جثته المضرجة بدمائه، بعد مدّة وجيزة من الحادث من قبل أحد العناصر المناوبين. فيما باشر ذويّ المعاون بإجراءات الدفن، على أن توارى جثته الثرى، يوم الأربعاء.

وقد تواصلت "المدن" مع أحد أقربائه للاستفسار عن ملابسات الحادث، وما يرتبط به من أبعاد معيشيّة، فيما رفض الأخير التّصريح عن اسمه، مكتفيًا بأنه يعتبر أن ما حصل ليس انتحارًا، بل رجح مقتله، أو إصابته بطلقٍ ناريّ بالخطأ، فيما أدعى مقربون آخرون أنّه من الممكن أن هرموش قد أنهى حياته بسبب الظروف الضاغطة، ملقين باللائمة على المديريّة التّي "للآن لم تقمّ بأي إجراءات تحول دون ضياع أفرادها في دوامة من العجز والتّفقير والخوف الدائم من المستقبل". مصرّين على متابعتهم لكل الإجراءات القانونيّة اللازمة لمعرفة حقيقة الذي جرى، والتّوسع في التّحقيق. هذا فيما عبّر المقربون عن خوفهم من حرمان أطفاله من راتب والدهم، في حال تمّ اعتبار الحادث انتحاراً.

وشدّد مصدر أمنيّ رفيع المستوى، في حديثه لـ"المدن" على أن الحادث يبدو وكأنه فرديّ ولا يرتبط بحادثٍ أمنيّ أبعد وأوسع من ذلك. إذ أن المعاون أقدم على انهاء حياته في مرحاض المركز، وأكدّ أن التحقيقات مستمرة، وأن المديريّة تسعى جاهدةً لوقف النزيف البشريّ الذي تعانيه، أكان بالفرار أو الانتحارات، المستمر منذ بداية الأزمة. فيما اعتبر المصدر، أن حالات الانتحار مؤخرًا قد باتت مُلاحظة، وناجمة عن انتفاء الاستقرار المعيشيّ، المقرون بتشتت السّياسات الحكوميّة.


انتحار وفرار

وقد جاءت الحادثة على متن الوقائع التّي تُفيد بنفاد كل من المنحتين القطريّة والأميركيّة (راجع "المدن") التّي تمكنت من الانتشال الجزئيّ للعناصر من نكبتهم المعيشيّة، ولما كان الفرار من الخدمة الحلّ المعتمد عند شطرٍ لا يُستهان به من العناصر المُحتجزة في وظائفها التّي باتت أشبه بالسّخرة (انخفاض الرواتب، وتهالك أسس الحماية الاجتماعيّة)، حلًّا مواربًا، يُفاقم حال الأفراد بدل أن يُساعدها في تحسين أوضاعها، نظرًا للتعقيدات القانونيّة والعقوبات المسلكيّة والقضائيّة التّي تطال هؤلاء، مُضافًا لتوقف العمل بطلبات التّسريح منذ أكثر من أربع سنوات (رغم انتهاء عقود تطوع كثيرين)، كما تمّ التّضييق على مأذونيات السّفر بعدما باتت سبيلاً للفرار خارج المؤسسة وكذلك البلد. بقيّ أمام نذرٍ يسير من هذه العناصر، خيارٌ عبثيّ يُماشي بطبيعته انحلال الدولة، وهو الانتحار عوضًا عن البقاء في المجهول.

فالكثير من العناصر في قوى الأمن الداخلي فضلوا خيار الموت على بقائهم في حلقة احتجاز قسريّ. وفي السّنوات الأربعة الأخير، شهدت بوابة المديرية العامة لقوى الأمن الداخليّ، عشرات حالات انتحار في وضح النهار. كما شهدت مخافر عدّة وثكنات موت عناصرها المتعمد في حرمها. وسُجلت عشرات حالات الوفاة بذبحات قلبية أثناء الخدمة الفعليّة والدوام الرسميّ، بسبب الضغوط المعيشيّة وأعباء الخدمة. فيما تفشت الأمراض المزمنة في صفوف العناصر الرازحين تحت أعتى أشكال الفاقة والمهانة الاقتصاديّة.

تعليقات: