النازحون السوريون يعملون كل شيء واللبنانيون يتربّحون ويشكون

اليد العاملة السورية تتفوق على نظيرتها اللبنانية (Getty)
اليد العاملة السورية تتفوق على نظيرتها اللبنانية (Getty)


يأخذ رؤساء بلديات في البقاع على المجتمعات المحلية، لدى التطرق إلى شكوى اجتياح العمالة السورية للقطاعات الإنتاجية، أن من يشتكون غالباً هم ممن يساهمون في حالة الفوضى التي تصعّب إحصاء المهن التي يمارسها النازحون "عن غير وجه حق"، وممن يؤمنون الحماية لهم. فإما يكون هؤلاء عادة من مشغلي يد عاملة أجنبية من دون إجازة عمل، أو ممن يؤجرون ممتلكاتهم ضمناً، أو هم شركاؤهم في أرباح من مؤسسات لا فضل لهم بإنشائها، سوى أنها نشأت في ممتلكاتهم.


وهذا ما يترك ملف النازحين السوريين عنواناً أولاً في المنازعات المحلية على لقمة العيش، على رغم تراجع أولوية هذا الملف على المستوى الرسمي، نتيجة للحرب الدائرة في غزة الفلسطينية، وخشية تمددها إلى الأراضي اللبنانية.


الصورة النمطية

إنطلاقاً من هذا الواقع، يصبح من المفيد الاستماع إلى ما يقوله طرفي هذه النزاعات، اللبناني والسوري، في تبرير التحول الملموس بالقوة العاملة، ليس سعياً وراء مفاضلة طرف على آخر، إنما لإكمال الصورة التي جعلت العمالة السورية تكبر في لبنان، إنطلاقاً من دور الأفراد والبلديات التي حُمّلت مؤخراً مسؤولية ردع العمالة غير الشرعية، في وقت أصبحت بعض المهن تعتمد بشكل أساسي على هذه العمالة لإكمال دورتها الإنتاجية.

عند مواجهة مواطنين سوريين في قرى نزوحهم بنظرة اللبنانيين إلى عمالتهم، وتحميلهم مسؤولية "نتش" المهن من أمامهم، يتكشف نوع من الصورة النمطية التي كونتها المجتمعات السورية عن اللبنانيين عموماً. فبرأيهم أن اللبناني ينزع بطبيعته إلى أرباح يحققها من دون إنتاجية أو تعب، وربما يكون ذلك نتيجة لنظام مصرفي أفسد هذا الشعب، وجعل مواطنيه يحجمون عن استثمارات منتجة. فلماذا يفعلون ذلك طالما أن تعويض فرد يمكن أن يؤمن له معيشة جيدة إذا إدخره بالمصرف، ومن دون أن يمس من رصيده، نتيجة للفوائد المرتفعة التي قدمتها المصارف لفترة من الفترات. وهكذا إذاً لم يعد اللبناني يقبل سوى بالأرباح الفورية والسهلة والتي لا تحتاج إلى إنتاجية. وهذا على ما يبدو جاء لمصلحة "التجار" السوريين خصوصاً، الذين نجحوا باقتحام هذا القطاع، ليسيطروا في بعض المناطق على قسم كبير من المتاجر، حيث أحصت مديرية الأمن العام في آخر دراسة أجرتها بأسواق البقاع، أكثر من أربعة آلاف متجر يشغّل من قبل سوري في قضائي زحلة والبقاع الغربي.


بيع كثير وربح قليل

ما يحصل في بلدة برالياس البقاعية قد يشكل صورة مصغرة عن الفوضى السائدة في هذا القطاع تحديداً. فأكبر تجمع للنازحين السوريين في البقاع، بات أيضاً أكبر تجمع للاستثمارات السورية في المحلات التجارية، إذ بلغ عدد المؤسسات التي أنشأها سوريون في هذه البلدة وفقا لآخر تصريح صدر عن محافظ البقاع 1700 محل تجاري.

في البلدة يتحدث التجار "السوريون" أن صاحب الملك اللبناني، الذي هو إبن البلدة، يفضل التعاطي مع تاجر سوري. فيقول أحدهم "نحن ندفع ثمن المأجور مسبقاً لمدة عام، وعند طلب إخلائه نخليه فوراً، عدا عن الأرقام التي تفرض علينا كأجرة، والذي يصعب على اللبناني تسديدها عادة".

فكيف يملك السوري إمكانيات لا يملكها اللبناني ببلده؟ يجيب أحد التجار السوريين "لدينا مبدأ يتماشى مع طبيعة مجتمعاتنا، وتكوّنها من الطبقة غير الميسورة عادة، ويقوم على البيع الكثير والربح القليل". وهذا ما يجعل حتى الزبون اللبناني برأيهم "يهجر محلات التجار اللبنانيين ويتوجه إلى أسواقنا".

هذا الأمر يعتبره تجار لبنانيون أنه لا يكشف كل الحقيقة ويشرحون أنه "بموضوع التجارة تحديداً، ينطلق كل مواطن سوري على الأراضي اللبنانية من امتيازات تجعله متقدماً على اللبناني. وأولى هذه الامتيازات تتوفر عبر المنظمات التي تدعمهم بالطعام والتدفئة والمدارس وحتى بالمسكن وبتسديد فواتير الكهرباء والمياه. بينما اللبناني يجب أن يضيف تكاليف هذه الخدمات على رأسماله حتى يتمكن من تغطيتها. هذا مع الإشارة أيضاً إلى كون السوري عادة ينشىء مؤسسته بالشراكة مع أفراد عائلته، وهؤلاء جميعاً يعملون في المحل ليتقاسموا أرباحه، وبالتالي لا يتكبدون أكلافاً إضافية للعمال والموظفين. عدا عن كون بعضهم يحوّل هذه المحلات إلى مكان يبيت فيه ليلاً أيضاً، وهذه أمور تسهم كلها في الحد من كلفة المعيشة بالنسبة للسوري.

وفي متابعة للصورة التي يرسمها السوري عن اللبناني، فهو يرى بأنه "مش شغيل" ولا معتاد على ممارسة مهمات شاقة تتمرس عليها الطبقة العاملة السورية منذ الصغر. وانطلاقاً من هنا يعتبرون بأن اتهام السوريين بسلب اللبنانيين فرصهم، ولا سيما تلك التي تتوفر من خلال الجهات الداعمة التي تموّل مشاريع إنمائية في لبنان، غير منصف، خصوصاً أن طلبات إشغال الوظائف في هذه المشاريع تكون خالية بمعظم الأحيان من متقدمي الطلب اللبنانيين.


العمالة الزراعية

انطلاقاً من هنا قد لا تكون الحملة التي بدأتها الأجهزة الأمنية بإيعاز من النائب العام الاستئنافي في البقاع منيف بركات، كافية لردع هذا التفوق في القوة العاملة بالنسبة لحاملي الجنسية السورية في الأسواق اللبنانية. ليس فقط لأن معظم الحملات التي سبقتها انتهت إلى تراخ أدى إلى تفشي هذه الظاهرة بالشكل الذي وصلت إليه، وإنما أيضاً لأنهم مدركون بأن المجتمعات اللبنانية غير مستعدة للتخلي عنهم كقوة عاملة، في الدورة الإنتاجية لمعظم القطاعات الاقتصادية.

في منطقة البقاع تحديداً، يقر معظم العاملين في القطاع الزراعي بأن "لا مواسم في البقاع من دون العمال السوريين". حقيقة يدركها كل معني وغير معني بهذا القطاع. إذ أن الزراعة تعتبر من الأعمال التي اقترنت مزاولتها تاريخياً باليد العاملة السورية. وهي بالتالي لا ترتبط بالنزوح السوري، إلا انطلاقاً من الأطماع التي أثارها هذا النزوح، ليدفع بأرباب العمل وضامني الورش والأراضي الزراعية، إلى استسهال تشغيل اليد العاملة من بين النازحين، فاستغلوا الظرف ولم يشرّعوا لهذه العمالة في وزارة العمل كما كان يجري قبل الحرب السورية. ولا يمكن التسليم بأن ذلك لم يحمل نيات خبيثة للحسم من أجرة اليد العاملة، طالما أنها موجودة في أوساط النازحين وبأعداد كبيرة.. إلى أن انقلب السحر على الساحر. فأدى تعامي الدولة عن هذه الظاهرة لسنوات طويلة، وعدم ملاحقة مشغلي العمال من دون أذونات عمل قانونية، إلى تشجيع القيمين على الورش الزراعية من السوريين، لضمان الأراضي بأنفسهم، وبالتالي الاستعانة بورشهم للعمل في هذه الأراضي. وهذا ما تسبب مجدداً برفع كلفة اليد العاملة السورية، التي لم يعد يغريها العمل مع رب عمل لبناني.


القطاعات الحرفية والمهنية

في القطاعات الحرفية والمهنية، لا يبدو الواقع مختلفاً. يخبر أحدهم أنه أراد تبليط بيته، واستعان بقريبه المعلم اللبناني على أساس أنه لا يريد العمل سوى مع لبناني. إلا أنه تفاجأ لدى حضور "المعلم" أنه أحضر معه كل "الشغيلة" من العمال السوريين، ولم يسهم هو في المهمة سوى بتقاضي أجرته مضافة إلى أجرة العمال الذين أحضرهم. فكان قرار الرجل في مرة لاحقة أن يستعين مباشرة بعمال سوريين، ويقتصد من كلفته أجرة المعلم اللبناني الذي لم يفعل شيئاً.

الأمر يتكرر على أكثر من صعيد، وفي ورش كبيرة أو منزلية صغيرة أو حتى صناعية. بدءاً من مهن التبليط والسنكرية والدهان، وإلى الميكانيكي، والمخرطجي، والنجار، ومعلمي الألمنيوم، وغيرها من المهن التي أصبحت اليد العاملة السورية فيها تتفوق على القوة العاملة اللبنانية عموماً.

اللافت أن هذه اليد العاملة الأقل كلفة وصلت إلى قطاعات تصليح الكومبيترات والكهرباء وحتى الحلاقة ومزيني الشعر والخياطين، وغيرها من الحرف التي اختفى ممارسوها من المجتمعات اللبنانية. وفي جميع الأحوال هناك رب عمل لبناني حقق أرباحاً ولو على حساب جيران له وعائلات تضررت بنتيجة مضاربتهم.


نموذج "الفرزل"

وهنا تحديداً يرى المتضررون أن تدخل السلطات المحلية والأمنية مطلوب بحزم لقمع هذه المخالفات، ليس فقط من خلال ملاحقة مزاولي هذه المهن بشكل غير قانوني، وإنما للاقتصاص مادياً ومعنوياً ممن أذنوا وسهلوا مهمتهم من لبنانيين، على رغم معرفتهم بعدم قانونيتها. إذ يحكى عند كل محاولة من قبل الأجهزة الأمنية لتعقب المحلات التي يشغلها سوريون بشكل غير شرعي، أن أصحاب الملك يبرزون مستندات تثبت أنهم هم من يشغلون هذه المحلات، وأن المشغل السوري ليس سوى "عامل" فيها. وحتى في حالة إصرار الأجهزة الأمنية على إقفال هذه المحلات بناء على ما يتوفر لديها من معلومات، يبذل هؤلاء كل الجهود والوساطات لإبقاء الأمور على حالها.


واقع واجهته تكراراً أجهزة الضابطة العدلية التي كلفت بمكافحة العمالة غير الشرعية منذ سنة 2013 وحتى اليوم، ولم تتمكن من ردعها حتى الآن. فيما أثبتت التجارب العملانية أن ما ردعها فعلياً هي المجتمعات التي قررت أن تحافظ على أمنها الاجتماعي والاقتصادي، وتعاون أهلها مع السلطة المحلية، على إبقاء استعانتهم بالعمالة الأجنبية من ضمن القوانين والأنظمة المرعية، كبلدة الفرزل في البقاع الأوسط مثلاً، التي اتهمت في بداية تطبيقها القوانين بـ"العنصرية"، فيما هي في الواقع حافظت على علاقة مهنية نظيفة مع العمال السوريين، سمحت لها حتى الآن بتجنب النزاعات المحلية، على خلاف مجتمعات كثيرة فتحت أبوابها أمام الفوضى المتأتية من هذا الملف، حيث باتت حالياً تصب كل عنصريتها على السوريين لامتصاص تداعياته.

تعليقات: