في العصر الراهن، بات ضبط الساحة الماليّة والنقديّة إحدى أدوات المواجهة خلال الحروب (Getty)
حتّى هذه اللحظة، وبالرغم من الاشتباكات المضبوطة الإيقاع على الحدود جنوبًا، لم يخرج سعر صرف الدولار في السوق الموازية من نطاقه المعهود على مدى الأشهر الماضية، أي عند مستويات تقل عن الـ90 ألف ليرة مقابل الدولار.
هذا الواقع، بالرغم من انتهاء الموسم السياحي، وبمعزل عن المخاوف من التصعيد العسكري الشامل، يطرح أسئلة جديّة عن سرّ الاستقرار النقدي الراهن، خصوصًا أن المصرف المركزي ما زال ملتزمًا بسياسة عدم التفريط بدولارات الاحتياطي، والابتعاد عن فكرة استعمالها لضبط سعر الصرف. أمّا الأهم، فهو أنّ هذا الواقع يطرح الاستفهام الاستنكاري عن سبب تورّط حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة بضخّ مليارات الدولارات عبر منصّة صيرفة، سيئة الذكر، طالما أن تحقيق الاستقرار النقدي كان ممكنًا –بحكم التجربة الراهنة- من دون هذه المنصّة وكلفتها الباهظة.
على المقلب الآخر، وبالرغم من الاستقرار النقدي الراهن، بات هناك تساؤلات جديّة عن إمكانيّة الحفاظ على هذا الاستقرار في حال تحقّق أسوأ الاحتمالات الأمنيّة والعسكريّة، أو بصورة أوضح: في حال تصاعد الأمور لتبلغ مستوى المواجهة الشاملة مع إسرائيل. وهذه التساؤلات لا تنطلق حتمًا من الرغبة بالتهويل أو التشكيك غير المفيد –وغير الأخلاقي- في هذه المرحلة، بل من السعي لتدارك أي ثغرات أو مخاطر ذات طابع نقدي أو مالي، للحؤول دون تحوّل هذه المتغيّرات إلى سلاح يُستخدم ضد لبنان لاحقًا. ففي العصر الراهن، بات ضبط الساحة الماليّة والنقديّة إحدى أدوات المواجهة، أو بالأحرى إحدى ساحات الجبهة الداخليّة خلال الحروب.
عوامل الاستقرار النقدي الراهن
كما هو معلوم، كان الجميع يترقّب نهاية شهر أيلول الماضي، بوصفها إحدى المحطّات المفصليّة بالنسبة لسعر صرف الليرة، لتبيان قدرة مصرف لبنان على الحفاظ على الاستقرار النقدي على المدى البعيد.
فمنذ رحيل حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة في بداية شهر آب الماضي، ألزم المجلس المركزي للمصرف نفسه بقرار عدم الإنفاق من الاحتياطات لدعم سعر صرف الليرة، في تحوّل كبير مقارنة بسياسة سلامة، الذي عمد إلى ضخ هذه الدولارات في السوق بكميات ضخمة عبر منصّة صيرفة. وخلال شهري آب وأيلول، لم تشهد قيمة الليرة أي انخفاضات ملموسة في قيمتها، بالرغم من توقّف ضخ الدولارات، وهو ما تم ربطه بالموسم السياحي الذي شهد تدفّقًا ملحوظًا لدولارات المغتربين. لهذا السبب، كانت نهاية شهر أيلول، أي نهاية موسم الاصطياف السياحي، هي المحطّة التي سيتبيّن عندها مدى استدامة هذا الاستقرار في سعر الصرف، بالرغم من التحوّل في سياسة المصرف المركزي.
مضى نحو شهر بعد مرور هذه المحطّة، لم ينتهِ خلالها تدفّق دولارات الموسم السياحي فحسب، بل وبدأت في الوقت نفسه التوتّرات العسكريّة جنوبًا، التي أعقبت عمليّة طوفان الأقصى في السابع من الشهر الحالي. ومع ذلك، حافظ الدولار على مستوياته المعهودة. مع الإشارة إلى أنّ أرقام الهيئات الاقتصاديّة تشير إلى أنّ بعض القطاعات الاقتصاديّة، مثل المطاعم والسهر وتأجير السيٍّارات شهدت خلال هذه الفترة انكماشًا يصل إلى حدود ال90%، بما يعكس أثر تقاطع العاملين معًا (أي نهاية موسم الاصطياف وبدء التوتّرات).
ثمّة العديد من التحليلات التي حاولت تفسير هذا الاستقرار النقدي، ومنها امتصاص المصرف المركزي على مراحل، خلال الأشهر الثمانية الأولى من السنة الراهنة، نحو 31% من الكتلة النقديّة المتداولة في السوق، وهو ما جفّف الأسواق عمليًّا من السيولة "الساخنة" بالعملة المحليّة، أي تلك التي يمكن أن تتحوّل إلى طلب على الدولار في أي لحظة، سواء للمضاربة أو الادخار. ومن المهم الإشارة إلى أنّ جزءاً كبيراً من عمليّة الامتصاص هذه جرت عبر بيع دولارات الاحتياطي في مراحل سابقة، أو عبر جباية الضرائب من قبل الدولة اللبنانيّة بالليرات الطازجة في جميع أشهر السنة.
العامل الآخر الذي يُشار إليه هو عامل سياسي بالدرجة الأولى، ويتمثّل في تقليص هامش المضاربة الممنوح لكبار اللاعبين في السوق، الذين يملكون بطبيعة الحال مرجعيّاتهم ومظلاتهم السياسيّة. ففي هذه المرحلة، وعلى أعتاب تصعيد كبير محتمل، باتت المضاربة على العملة المحليّة تكتسب أبعاداً سياسيّة خطيرة، وخصوصًا على مستوى إضعاف "الجبهة الداخليّة" اللبنانيّة أمام هذه الاحتمالات، بل على مستوى إضعاف قدرة حزب الله نفسه على المناورة في وجه إسرائيل إزاء هذه الاحتمالات.
من ناحيته، امتلك المصرف المركزي أيضًا أدوات أخرى لضبط الوضع النقدي خلال الفترة نفسها، وتحديدًا من خلال قدرته على تقليص عمليّات شراء الدولار من السوق بحسب الظروف في كل يوم، بعد الموسم السياحي الحافل الذي استمرّ خلاله بجمع الدولارات، للتمكن من تسديد رواتب موظفي القطاع العام بالعملة الصعبة. ومن المرجّح أنّ مصرف لبنان قام بالفعل خلال الشهر الراهن بمواءمة تدخّلاته اليوميّة بحسب توفّر العملة الصعبة، وبحسب قدرة الصرّافين على جمع الدولارات.
أخيرًا، يبقى هناك عامل حاسم قلّما تم الإلتفات إليه مؤخرًا، وهو عامل ضخ جزء من دولارات المنازلة المدّخرة خلال الأسابيع الماضية، من قبل الأسر التي تحتاط لتصاعد التوترات العسكريّة. وتشمل هذه الاحتياطات على سبيل المثال استئجار المنازل النائية عن أماكن القصف المحتمل، في حال حصول تصعيد، أو شراء الأدوية وتموين المواد الغذائيّة، وغيرها من الممارسات التي طرأت على حياة الأسر اللبنانيّة مؤخرًا.
ثغرات ومخاوف في حال حصول تصعيد إضافي
على المستوى النقدي، ثمّة بعض العوامل التي يُخشى من تأثيرها على الاستقرار النقدي الراهن، في حال حصول تصعيد عسكري إضافي خلال الأسابيع المقبلة.
وأهم عوامل القلق الحاليّة هي تأثير عمليّات المغادرة الطوعيّة حاليًا، أو الإجلاء الجماعي الاضطراري في المستقبل، للمقيمين من حملة الجنسيات أو الإقامات الأجنبيّة، أو لموظفي المؤسسات الدوليّة والجمعيات الأجنبيّة. مع العلم أنّ هذا النوع من العمليّات يطال بشكل أساسي شريحة يغلب عليها فئة الميسورين ماديًا، أو فئة المستفيدين من التحويلات الماليّة من الأقارب في الخارج، من الذين تعتمد عليهم سوق القطع لتأمين العملة الصعبة. وهذا الهاجس، يترافق مع هاجس آخر، وهو تأثير سحب كتلة من الدولارات من السوق مع المغادرين، للإنفاق في الخارج.
الهاجس الآخر، يرتبط بتأثير أي تصعيد عسكري محتمل على عمليّات شحن الدولارات من وإلى الخارج، بفعل تأثّر حركة الطيران أو حركة الشحن البحري. وهذا الهاجس يتغذّى أيضًا من المخاوف من أي قرار سياسي خارجي، يمكن أن يقضي بتشديد علاقة لبنان مع المصارف المراسلة، وخصوصًا الأميركيّة. ومن المهم الإشارة هنا إلى انّ مصرف لبنان يمتلك نحو 1.53 مليار دولار –من احتياطاته الجاهزة- نقدًا، في حين أنّ 6.97 مليار دولار من هذه الاحتياطات موجود على شكل حسابات لدى المصارف المراسلة في الخارج. وعلى هذا الأساس، في حال حصول عرقلة في عمليّات شحن الأموال، أو في حال تشديد علاقة لبنان بالمصارف المراسلة، قد يتمكّن مصرف لبنان من التدخّل في السوق لفترة محدودة، تحكمها كفاية الأموال المتوفّرة نقدًا بحوزة المصرف المركزي.
إلى جانب كل هذه الهواجس، يبرز كذلك الخوف من تأثير توقّف حركة الوافدين إلى البلاد، وخصوصًا من قبل المغتربين الذين دأبوا على زيادة لبنان خارج الموسم السياحي. وهذا ما سيعني كذلك حرمان السوق من مصدر أساسي من مصادر العملة الصعبة، لا بل سيكون من الطبيعي أن يحاول هؤلاء تأمين مغادرة أقاربهم في لبنان في حال امتلكوا جنسيّات أو إقامات أجنبيّة. ومن المعلوم أن حركة مطار بيروت شهدت أساسًا انخفاضًا بنسبة الثلثين خلال الأسابيع الماضية، كنتيجة طبيعيّة للتوتّرات التي شهدها جنوب لبنان منذ بدء التصعيد العسكري في غزّة.
في النتيجة، ثمّة ما يكفي للاطمئنان لتوازنات السوق القطع خلال المرحلة الراهنة، بالرغم من كل ما تشهده الساحة الجنوبيّة من توتّرات واشتباكات يوميّة. إلا أنّ الوضع النقدي قد يحتاج إلى مزيد من الحذر، وإلى المزيد من الخطوات الاستباقيّة، للتحوّط في وجه العوامل الضاغطة التي قد تنتج عن أي تصعيد إضافي محتمل خلال الفترة المقبلة. وهذه الاحتياطات، يفترض أن تتكامل مع غيرها من الخطط والإجراءات لتحصين الوضع الصحّي والأمن الغذائي، خصوصًا أن إمدادات الغذاء والمستلزمات الطبيّة ترتبط بشكل وثيق بتوفّر العملة الصعبة المطلوبة لتمويل الاستيراد.
* علي نور الدين
تعليقات: