الطائرات المسيّرة وحروب العصابات الجديدة: غزة مثالاً

منحت الطائرات المسيّرة الجماعات المسلحة غير الحكومية إمكانيات غير مسبوقة (Getty)
منحت الطائرات المسيّرة الجماعات المسلحة غير الحكومية إمكانيات غير مسبوقة (Getty)


لم أخفِ حماستي عندما رأيت فيديو لطائرة مسيّرة يوم السابع من تشرين الأول تقوم بإلقاء ما يشبه قذيفة B7 على دبابة ميركاڤا، وتواصل التصوير حتى تم اختراق الجزء العلوي واشتعال النيران في تلك الآلة الحربية المتطورة.

لقد أتاحت الثورة الصناعية الرابعة للجماعات المسلحة غير الحكومية الحصول على قدرات عسكرية متطورة كانت سابقاً مقتصرة على الدول الكبرى. فبواسطة هذه التكنولوجيا الحديثة، استطاعت حركات مسلحة في مختلف أنحاء العالم اقتناء أسلحة ذات فعالية وتكلفة منخفضة، مثل الرؤوس الحربية الصغيرة والصواريخ ذات المدى القصير والمتوسط والطائرات المسيّرة، واستخدام الذكاء الاصطناعي المختص، والتصنيع بواسطة الطابعات ثلاثية الأبعاد.

إن انتشار التكنولوجيا التجارية في المجتمعات المدنية سهّل على الجماعات المسلحة غير الحكومية تصنيع أسلحة صغيرة وذكية ورخيصة. في السنوات العشر الأخيرة تخلت الجماعات المسلحة عن التقنيات القديمة التي كانت موثوقة لديها لسنوات لأنها عصية على الاختراق، وبدأت تتبنى التكنولوجيا الحديثة. على سبيل المثال، ظهرت الطائرات من دون طيار التجارية (Commercial Drones) في نهاية التسعينيات، لكنها لم تصبح جزءاً من ترسانات الجماعات المسلحة إلا في عام 2016، بعد أن انتشر استخدامها بشكل واسع بين الهواة.


الطائرات المسيّرة وإمكانياتها

تتميز الطائرات المسيّرة العسكرية عن نظيراتها التجارية بعدة خصائص، منها حجمها الكبير، واعتمادها على الأجنحة بدلاً من المراوح الأربعة المألوفة (Quadcopter)، واستخدامها للوقود بدلاً من البطاريات، مما يوفر لها مدىً أطول.

باتت الجماعات المسلحة قادرة على استخدام الطائرات المسيّرة لمجموعة متنوعة من المهام، بما في ذلك:

المراقبة والاستطلاع: يتم اليوم استخدام الطائرات المسيّرة لجمع المعلومات عن مناطق العدو أو المناطق التي يتعذر الوصول إليها.

تحديد الأهداف وتعيينها: يمكن استخدام الطائرات المسيّرة لتحديد الأهداف وتعيينها من أجل توجيه أسلحة أخرى مثل منصات الصواريخ والقاذفات الصاروخية المحمولة.

الهجوم: بإمكان الطائرات المسيّرة حمل وإطلاق الأسلحة، مثل القنابل والمتفجرات لمهاجمة أفراد العدو ومعداته ومراكزه الحيوية. كما يمكن استعمال الطائرة نفسها كقنبلة (الزواري).

إن استخدام الطائرات المسيّرة في الحرب الأوكرانية مثّل علامة فارقة في تطوّر الحروب. لقد كانت الطائرات المسيّرة تستخدم سابقاً بشكل أساسي لأغراض المراقبة والاستطلاع من قبل الجيوش الحكومية، ولكن الحرب الأوكرانية أظهرت إمكانية استخدامها للهجوم بشكل واسع.

لقد منحت الطائرات المسيّرة الجماعات المسلحة غير الحكومية إمكانيات غير مسبوقة في المراقبة والاستطلاع والهجوم. هذه الآلة الصغيرة التي يمكن أن يرصدها الرادار على أنها طير، بات لديها القدرة على إحداث تغيير نوعي في مسار الحروب. إنها غير مكلفة نسبياً وسهلة الإنتاج، والأهم أنه بإمكانها أن تنقل المفجّر (الصاعق) فقط إلى ذخائر العدو وليس بالضرورة القنبلة نفسها.


الرؤوس الحربية الصغيرة

تزايدت قوة الرؤوس الحربية مع المواد المتفجرة الحديثة، لكن الاستخدام الأمثل للرؤوس الحربية الصغيرة يكمن في تبني مفهوم "إرسال المفجّر بدلاً من المتفجرات". يتمثل هذا المفهوم في استخدام طائرة مسيّرة صغيرة ذكية لتفجير الأهداف ذات الإمكانية المتفجرة الكبيرة في مجتمع العدو، مثل المطارات أو المنشآت التي تحتوي على الذخائر والوقود والأسمدة أو المواد الكيميائية الصناعية الأخرى. وقد تم بالفعل تطبيق هذا المفهوم في الحرب الأوكرانية، حيث عمد الطرفان إلى إرسال طائرات مسيّرة لإسقاط قنابل بسيطة على مستودعات الذخيرة أو المنشآت النفطية.

من ناحية أخرى يتم تعديل الرؤوس الحربية الصغيرة لتتوافق مع الأهداف المتعددة التي أتاحتها التكنولوجيا الحديثة. لقد أظهرت الصور من هجوم الطائرات المسيّرة يوم 7 تشرين الأول، قدرة القذائف من اختراق المدرعات والدبابات من فوق، بينما كان يتركز تصفيح هذه الدبابات ضد المقذوفات الأفقية. كذلك يتم تصنيع رؤوس حربية صغيرة ذات اختراقات متعددة (الصواريخ المضادة للدروع) أو تلك التي تستهدف المنشآت بشكل متتابع (راجمات الصواريخ) لزيادة القوة التدميرية.


تحديد المواقع والملاحة المستقلة

من التقنيات المهمة التي فتحت المدى الواسع للجماعات المسلحة غير الحكومية، نظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، وخرائط غوغل أو ما يوازيها من تطبيقات تعطي صوراً حديثة جداً، حيث تستخدم شركة Planet شبكتها من الأقمار الصناعية لالتقاط صور بدقة تصل أقل من المتر لكوكب الأرض بأكمله يومياً وتبيع هذه الصور على الإنترنت لمن يريد. كذلك تطبيق SpyMeSat الذي يوفر حسب الطلب الوصول إلى أحدث صور الأقمار الصناعية عالية الدقة، والنتيجة هي أن هناك شركات متعددة تقدم الآن صوراً شبه فورية لأي مكان على الكوكب.

وفي حين أنه يمكن التشويش على أنظمة GPS التي تستعملها الطائرات المسيّرة فإن الذكاء الاصطناعي المختص مصحوباً مع بيانات الخرائط الدقيقة يمكن أن يتيح لهذه الطائرات الملاحة المستقلة عن نظام GPS، واستعمال إشارات مايكروويڤية والطيران بشكل تلقائي لمئات الكيلومترات. كما يمكن بواسطة الذكاء الاصطناعي تحديد الأهداف والمواقع في ظروف إضاءة منخفضة معتمداً على التقنيات المتوفرة في الهواتف الذكية مثل الكاميرات.


حروب العصابات الجديدة

في حروب العصابات التقليدية كانت المجموعات المسلحة غير الحكومية تنتصر في العديد من الأوقات بسبب اعتمادها على معرفة الأرض والاختلاط بالسكان وتأثير القيادات الكاريزمية مثل غيفارا وهوشي منه وماو تسي تونغ.

وحتى وقت قريب كان الاعتقاد السائد بأن زمن الـGuerrilla warfare قد ولى. لكن التكنولوجيا التي تغزونا تجارياً لا يمكنها أن تشترط ألا يستعملها الفلسطينيون في مواجهة جيش الاحتلال. كما أن المعرفة بعلوم البرمجة والهندسة والانسيابية في الطيران لم تعد حكراً على الجامعات المرموقة، فهي متوفرة على الإنترنت بنقرة (ماوس).

أعلم أن العديد من الدراسات اليوم تجهد للبحث عن طرق حجب التكنولوجيا الحديثة عن الجماعات المسلحة غير الحكومية، لقد تصفحت منها ما تيسّر خلال التحضير لهذا التقرير. ويبدو أن السبيل الوحيد الممكن لدى هذه العقول الأمنية هو الإبادة، كما يحصل اليوم في غزة. بينما يكمن الحل العقلاني في معالجة أسباب الصراعات، أي إنهاء الإحتلال ونظام الأبارتهايد في الحالة الفلسطينية واعتماد القانون الدولي.

وربما يوماً ما قد يلتقي طفل من سديروت مع طفل من غزة في حقل يمتد على أطلال المنطقة التي كانت نقطة تفتيش عند الجدار ويلعبان معاً بطائرة Drone صغيرة. ربما.. لكن ليس على الأرجح!

تعليقات: