تعيش الضاحية مشاعر فخرٍ ممزوج بالتوجس والخوف (Getty)
أمام المدخل الرئيسي لباحة عاشوراء في شارع الجاموس، تتجمع النسوة لمراقبة التحضيرات الميدانية لخطاب أمين عام حزب الله، يوم غد الجمعة في الثالث من تشرين الثاني. تصوب إحداهن نظرها على الألواح الحديدية، حيث سترفع الشاشة العملاقة، ثم تقترب قليلًا من المحلات التجارية المجاورة لشراء العلم الأصفر.
الخوف والترقب
طيف أيلول العام 2006، بدأ تدريجيًا يظهر في الضاحية الجنوبية لبيروت، وتحديدًا في منطقة الجاموس، حين أُعلن "انتصار المقاومة الإسلامية" على العدو الإسرائيلي في ملعب الراية، للمرة الأولى.. فيما تتم حاليًا التحضيرات لما هو مبهم، في المرة الثانية.
ففي ساحة عاشوراء التي احتضنت (بعد تحوّل ملعب الراية الشهير لمجمع سكني وتجاريّ ضخم) عشرات الإعلانات و"الانتصارات" وكذلك المناسبات الدينية والحزبية والخطب المتوعدة، رُصّت مئات الكراسي إلى جانب بعضها البعض. في الساحة المترقبة، مئات الأعين تنظر نحوها بفخرٍ ممزوج بالتوجس والخوف ولربما الذعر لما سيحمله خطاب نصرلله وتداعياته على الساحة اللبنانية.
تحليلات عسكرية
في الجهة المقابلة، تُستأنف حياة الشارع المُحاذي الروتينية، السوق الأكبر في المنطقة والأشهر والأكثر تنظيمًا في الضاحيّة. المحال التجاريّة بمتسوقيها، على حالها، المطاعم على حالها، على خلاف كل الأسواق والمطاعم في العاصمة بيروت.
في الأوتوسترادات المركزية وتحت جسر الصفير تحديدًا، اجتاحت آلاف صور "الشهداء" الجدران والمساحات الفارغة وغير الفارغة، فيما وضعت خلال اليومين الماضيين بعض التوابيت الخشبية الوهمية، أي الفارغة، لُفت بعلم حزب الله، أمام أعين المارة، وهي كنايةً عن توابيت "شهداء" حزب الله "على طريق القدس".
الضاحيّة تغلي بالنقاشات والتحليلات العسكرية، فيما يتململ تحت حالة الفخر والخوف، شيءٌ عقائديّ ما، من الصعب فهمه أو تفسيره. وقد تطرح أسئلة كثيرة، بين السكان أنفسهم، ما الذي يجعل أهل الضاحية في هذا الاطمئنان؟ ولكنك سرعان ما ستدرك أن هذا الاطمئنان ومهما ظهر نمطيًا، هو نتيجة فرضيتين لا أكثر: إما توقع الأسوأ والتجهز للحرب، أو ترقب "الانتصار".
مشهدان مختلفان
مشهدان يطغيان على شوارع الضاحية الجنوبية. ففي المشهد الأول، انتشر السكان لشراء المؤن والتزود بالمحروقات أكان بنزين السيارات، أو قوارير الغاز، وحتى غالونات المازوت لتأمين تدفئة بيوتهم الجبلية المستأجرة حديثًا، ناهيك عن شراء الملابس العملية والفرش الإسفنجية والبياضات الضرورية، بينما يتجه البعض الآخر إلى الخروج من الضاحية الجنوبية قبل خطبة أمين عام حزب الله، احتياطًا، وتحسبًا لنشوب الحرب بعد الثالثة ظهرًا، حاملًا حقيبة صغيرة، وضع فيها أوراقه الرسمية وبعض الأموال وحاجياته الضرورية.
في المشهد الثاني، يتجه المترقبون لانتصار جديد، لشراء الأعلام الفلسطينية والحزبية من المحال التجارية التي غصت بهذه البضائع المستوردة والمصنعة حديثًا، معبرين عن ابتهاجهم باقتراب موعد الخطبة، أكان بمواكب السيارات والدراجات النارية المتشحة بالأعلام، والصاخبة بالأناشيد وأغاني الانتصارات. أما العبارة التي تُردد في الشوارع وفي الأزقة "كرمال الله يا سيد يلا..".
وكانت لافتة مبادرة محلات المجوهرات التي ابتكرت بعض الأشكال الذهبية "الغريبة" والمرغوبة من سكان المنطقة، وهي عبارة عن ليرة ذهبية نحتت عليها صورة أمين عام حزب الله. والجدير بالذكر، بأن هذه الصناعات ليست جديدة، ففي عام 2006 وبعد انتهاء الحرب، عمدت بعض المتاجر إلى بيع "القداحات" التي تحمل صورة نصرلله وقد لاقت هذه التجارة نجاحًا كبيراً.
في شوارع المنطقة، يتابع الشبان "الأخبار" على مدار الساعة، وأيضًا مشتركو النوادي الرياضية يمشون على الآلات الرياضية، بينما أنظارهم تراقب الأخبار العاجلة عبر قناتي المنار والميادين. رواد المقاهي والمطاعم، تراهم يحملقون بالشاشة المُقسمة، ستة أو ثمانيّة أقسام، يدخنون النرجيلة، يأكلون، ويشتمون إسرائيل والتّخاذل العربي والطغيان الغربي. فيما لا يعلو صوت الراديو في سيارات الأجرة والفانات، إلا بالأغاني الثوريّة لجوليا بطرس الغائبة عن الساحة الفنية، أو بصوت مُذيع إذاعة النور.
محللون كثر، آراء متنوعة، ونقاشات طويلة تتمحور حول فرضية الحرب أو اللاحرب، فرضية "الانتصار" مجدّدًا، أو الفرضية التي يتمناها القسم الأوسع من اللبنانيين، أن يمرّ يوم غد على خير، بسلامٍ، من دون أن يعلن عن أي حرب فجائية، وأن تكون إطلالته التلفزيونية تحمل رمزية معنوية وتضامنية مع أهالي غزة وحسب. وإن صح القول، فإن مشهدية العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة، والمجازر التي يرتكبها بحق الأطفال والنساء والشيوخ، تحتل ضمير سكان المنطقة الغاضبين مما يحصل، ولكنهم يتمنون تجنب خوض أي حرب مرتقبة.
الضاحيّة تتحضر لخطبة نصرلله يوم غد، بنسائها وشبابها ورجالها وأطفالها حتّى. المواعيد والالتزامات تأجلت بمجملها لما بعد هذا يوم. عددٌ من المدارس أعلنت إغلاق أبوابها بمناسبة الخطبة، وأبلغت أهالي الطلاب بهذا الأمر. أما المحال التجاريّة فسوف تستقدم بضاعتها الجديدة بعد الجمعة، والمؤكد أن الجميع من دون استثناء، بانتظار هذا اليوم الذي يرتبط مصير الضاحيّة وباقي المناطق اللبنانية به.
تعليقات: