نشوء نظام مالي جديد وموازٍ (Getty)
لا يوجد ضرورة لإعادة التذكير بما طرأ على مرّ السنوات الأربع الماضية، من ناحية تدهور القيمة الفعليّة للودائع الدولاريّة القديمة (أي ودائع ما قبل تشرين الأوّل 2019)، سواء عند تداول هذه الدولارات بالشيكات المصرفيّة، أو عند سحبها بالليرة وفق أسعار الصرف المعتمدة من قبل تعاميم مصرف لبنان. ومن المعلوم أنّ ثمّة سوقاً سوداء خاصّة نشأت لتداول شيكات الدولارات القديمة، وأنّ سعر تداول هذه الدولارات في تلك السوق بات يؤشّر لقيمة الخسارة التي يتحمّلها المودعون، عند بيع دولاراتهم المصرفيّة القديمة أو محاولة استعمالها لشراء العقارات.
إلا أنّ الجديد اليوم، حسب أرقام مقاصّة الشيكات التي عرضتها جمعيّة المصارف، يتمثّل في الكشف عن انخفاض حجم تداولات الشيكات المصرفيّة إلى حدود قياسيّة، عند مقارنة أرقام هذه السنة بأرقام العام الماضي، وهو ما يُظهر بأنّ المودعين باتوا غير قادرين حتّى على استعمال دولاراتهم القديمة في عمليّات بين الحسابات المصرفيّة. وهذا ما يرتبط طبعًا بالقيود التي فرضتها المصارف على هذه التحويلات، بالإضافة إلى استنفاد قدرة المقترضين على قبول الشيكات المصرفيّة، بفعل تسديد معظم هذه القروض. في المقابل، بدأت تتنامى أرقام تداولات الشيكات بالدولار "الفريش"، والتي يبدو أنّها ستكون البديل عن تداول الدولارات القديمة، في تطبيع لفكرة نشوء نظام مالي جديد وموازٍ، مقابل دفن النظام القائم على "الودائع القديمة".
أرقام 2023: لا تداول بالدولارات القديمة
في أرقام جمعية المصارف الأخيرة، يتبيّن أن عدد الشيكات التي جرى تداولها هذه السنة لغاية شهر أيلول الماضي لم يتجاوز حدود 353 ألف شيك، مقارنة بـ1.3 مليون شيك في الفترة المماثلة تمامًا من العام الماضي. أي بمعنى آخر، لم يتخطّ استعمال الشيكات المصرفيّة هذا العام نسبة 27%، مقارنة بحجم تداولات عام 2022. وهذا ما يعكس انخفاضًا كبيرًا بنسبة 73% بين الفترتين.
أمّا من حيث القيمة، فانخفضت قيمة الشيكات المتداولة بالعملة الأجنبيّة هذه السنة (أيضًا لغاية شهر أيلول) إلى حدود 2.85 مليار دولار، مقارنة بـ8 مليار دولار خلال الفترة نفسها من السنة الماضية. وبذلك، تكون تداولات الشيكات قد خسرت 64% من قيمتها بين الفترتين. وبذلك، يصبح من الواضح أنّ قدرة المودعين على استعمال ودائعهم القديمة انخفضت هذا السنة إلى حدود قياسيّة، مقارنة بجميع الفترات السابقة، التي تلت حصول الانهيار المصرفي في أواخر عام 2019.
في جميع الحالات، من المهم الإشارة هنا إلى أنّ أرقام جمعيّة المصارف تشير أيضًا إلى أنّ نسبة دولرة الشيكات، أي نسبة الشيكات المتداولة بالعملة الأجنبيّة، انخفض أيضًا بين الفترتين، من 46.56% في أيلول 2022، إلى 23.31% في أيلول 2023. وهذا تحديدًا ما يؤشّر إلى أنّ انخفاض حجم الشيكات المتداولة جاء مدفوعًا بتقييد الشيكات المقوّمة بالعملة الأجنبيّة بشكل أساسي، وهو ما خفّض نسبة هذه الشيكات من إجمالي الشيكات المتداولة.
وللتأكيد على هذه النقطة، يكفي الالتفات إلى قيمة الشيكات المتداولة بالليرة اللبنانيّة، التي ارتفعت بشكل كبير من 25.68 ترليون ليرة في الأشهر التسعة الأولى من العام 2022، إلى أكثر من 45.69 ترليون ليرة في الفترة المماثلة من العام الحالي. أي بصورة أوضح، لم يكن انخفاض قيمة الشيكات المتداولة مدفوعًا بتراجع التداول بالليرة اللبنانيّة، بل بانخفاض قيمة التداولات بالعملة الأجنبيّة حصرًا.
نشوء تداولات "الدولار الفريش"
في أرقام جمعيّة المصارف نفسها، برز سريعًا تطوّر آخر لا يقل أهميّة، وهو نشوء فئة تداولات الشيكات بالدولارات أو الليرات "الفريش"، أي بالودائع الطازجة الواردة نقدًا أو بتحويلات من الخارج بعد تشرين الأوّل 2019. وحسب الأرقام، يتبيّن أن مقاصّة الشيكات "الفريش" شملت هذه السنة 464 شيكًا لغاية شهر أيلول الماضي، من بينها 128 شيكًا بالدولار الأميركي، بينما بلغت قيمة الدولارات الطازجة –أي بالعملة الأجنبيّة وحدها- التي تم تداولها 2.53 مليون دولار أميركي. وهذه التطوّرات، تشير إلى تداولات الشيكات "الفريش" ما زالت تسجّل أرقاماً متواضعة، وإن حققت انطلاقتها المرجوّة من مصرف لبنان.
ويجب التنويه هنا بأنّ نشوء مقاصّة الأموال "الفريش" جاءت هذه السنة بموجب تعميم مصرف لبنان رقم 165، الذي سمح للمصارف بإصدار شيكات خاصّة بالحسابات "الفريش"، فيما طلب من المصارف فتح حسابات لدى مصرف لبنان لإجراء عمليّات التسوية في ما بينها. رغم تحفّظ المودعين على هذا الإجراءات، الذي يطبّع الفصل ما بين الأموال الجديدة والقديمة، برّر مصرف لبنان التعميم بمحاولة امتصاص التداولات النقديّة في السوق، وتخفيف مخاطر تبييض الأموال.
أسباب تراجع تداول "اللولار"
ثمّة العديد من الأسباب التي تقف خلف تقييد تداول "اللولار"، أي دولارات الودائع القديمة، وهو ما حرم أصحاب الودائع من إمكانية استعمال أموالهم حتّى بعد خسارتها لقيمتها. المشكلة الأولى، تكمن في القيود التي فرضتها إدارات المصارف، من خلال منع إيداع الشيكات بالدولارات القديمة أو حتّى فتح حسابات جديدة خاصّة بها، إلا في حالات قليلة واستثنائيّة. وهذا الإجراء، جاء مدفوعًا برغبة كل مصرف بتقليص حجم إلتزاماته للمودعين، عبر منع تلقي أي ودائع جديدة، بهدف تخفيض حجم الخسائر التي سيتحمّلها في مرحلة إعادة هيكلة القطاع في المستقبل.
من ناحية ثانية، تشير أرقام جمعيّة المصارف نفسها إلى أنّ حجم القروض المصرفيّة المتبقية بالعملة الأجنبيّة تراجع من 38.3 مليار دولار أميركي في أواخر العام 2019 إلى نحو 8 مليار دولار فقط عام 2023. وبهذا الشكل، باتت مساحة القروض التي يمكن تسديدها بالشيكات المصرفيّة، والتي يمكن لأصحابها قبول الشيكات لهذا السبب، أضيق إلى حد كبير. وهذا ما ضيّق من فرص استعمال الشيكات بالنسبة إلى أصحاب الودائع، بل وساهم أيضًا في تراجع قيمة الدولارات المحليّة (اللولار) في السوق. ومع تراجع قيمة اللولار، تراجعت أيضًا شهيّة استعماله من قبل أصحاب الودائع، وهو ما قلّص أيضًا من حجم تداول الشيكات بالعملة الأجنبيّة.
في خلاصة الأمر، كل هذه التحوّلات تعيد التأكيد على استمرار تزايد الخسائر التي يتحمّلها أصحاب الودائع، حتّى بعد مرور أربع سنوات على حصول الانهيار المصرفي. وهذا الواقع، يرتبط بدوره بغياب المعالجات المصرفيّة المطلوبة من جانب الحكومة، وتحديدًا تلك التي تتصل بإعادة هيكلة القطاع بعد تحديد خسائره ومعالجتها. أما المشكلة الأهم اليوم، فهي أنّ جميع هذه المعالجات المطلوبة باتت في خبر كان، بعدما تجاوز السياسيون اللبنانيون الحديث عن خريطة الطريق التي تم الاتفاق عليها مع صندوق النقد الدولي، وكأن الجميع قد سلّم بتعثّر هذا الاتفاق بشكل كامل.
تعليقات: