كابوس التضخّم اللبناني: ما الذي يرفع الأسعار؟

التضخّم يعبّر عن تحوّلات اقتصاديّة ترتبط بشكل وثيق بمعدلات الفقر (مصطفى جمال الدين)
التضخّم يعبّر عن تحوّلات اقتصاديّة ترتبط بشكل وثيق بمعدلات الفقر (مصطفى جمال الدين)


وفقًا لأرقام مؤشّر أسعار المستهلك، الصادر عن إدارة الإحصاء المركزي، استمرّت معدّلات التضخّم السنوي بتسجيل نسب مرتفعة تتجاوز 208.5%، لغاية أواخر شهر أيلول الماضي. ما تعنيه هذه النسبة، هو أنّ أسعار السوق في تلك اللحظة الزمنيّة، كانت تتجاوز ثلاث أضعاف مثيلتها قبل سنة واحدة بالضبط، أي أنّ الأسعار واظبت على تسجيل زيادات لافتة هذه السنة، بالرغم من الاستقرار النسبي في سعر صرف الدولار منذ بدايات الربع الثاني من هذه السنة. مع الإشارة إلى أنّ سعر صرف الدولار اليوم لا يوازي أكثر من 74% من أعلى مستوياته، التي سجّلها خلال شهر آذار الماضي، قبل أن يستقر تدريجيًا عند المستويات الراهنة.

إشكاليّة معدّلات التضخّم اليوم لا تقتصر فقط على استمرار تسجيل النسب المرتفعة كل شهر، بل تكمن في أنّ معدلات هذه السنة مازالت أعلى من جميع النسب التي تم تسجيلها في الفترات المماثلة من الأعوام السابقة. فعلى سبيل المثال، لم يتجاوز معدّل التضخّم السنوي في أيلول 2022 مستوى 162.47%، كما لم يتجاوز مثيله في أيلول 2021 حدود 144.12%، مقارنة بـ131.05% في أيلول 2020. هذا مع الإشارة إلى أنّ السنوات السابقة شهدت اضطرابات أقسى وارتفاعات أشد في سعر صرف الدولار في السوق الموازية، ما يدل على وجود عوامل أخرى ضاغطة على مؤشّر التضخّم هذه السنة، غير مسألة سعر الصرف.


سعر الصرف لا يبرّر التضخّم الحالي

كما أشرنا سابقًا، بلغ مؤشّر التضخّم في أواخر شهر أيلول الماضي حدود 208.5%، وهو ما يعبّر عن نسبة زيادة الأسعار على أساس سنوي، أي مقارنة بالفترة نفسها قبل سنة واحدة. لكنّ الدخول في تفاصيل المؤشّر، يُظهر أنّ مؤشّر التضخّم سجّل مستويات أعلى بالنسبة للسلع التي يتم استيراد غالبيّتها. فعلى سبيل المثال، سجّلت فئة المواد الغذائيّة والمشروبات غير الكحوليّة تضخّمًا بنسبة 239.05%، في حين أنّ فئة الملبوسات والأحذية سجّلت تضخّمًا بنسبة 234.99%، مقارنة بـ235% لفئة المشروبات الكحوليّة والتبغ. بمعنى آخر، فاقت نسب التضخّم بالنسبة للسلع المستوردة، نسبة التضخّم العامّة في السوق، والتي يدخل ضمنها فئات أخرى من الخدمات، مثل كلفة السكن والإيجارات والخدمات الطبيّة وغيرها.

على أي حال، الرجوع إلى التغيّرات في سعر صرف الدولار الأميركي، بين أيلول 2022 وأيلول 2023، لا يفسّر معدّلات التضخّم الراهنة. فخلال شهر أيلول 2022، بلغ سعر صرف الدولار في السوق الموازية حدود 38,600 ليرة للدولار، فيما بلغ سعر الصرف في أيلول 2023 مستوى حدود 89,500 ليرة للدولار. بهذا المعنى، لم يتجاوز ارتفاع سعر الصرف بين أيلول 2022 وأيلول 2023 نسبة 131%، وهو ما يقل بأشواط عن نسبة التضخّم السنويّة المرتفعة المسجّلة بين الفترتين (208.5%)، ناهيك عن نسبة التضخّم الأعلى التي سجّلتها السلع التي يتم استيراد معظمها في العادة (المواد الغذائيّة والمشروبات والملبوسات والمفروشات وغيره).

ومن المهم التذكير هنا بأنّ سعر الصرف شهد تقلّبات حادّة بعد شهر أيلول 2022، إذ ارتفع من تلك المستويات المنخفضة إلى مستويات قياسيّة في شهر آذار الماضي -كما أشرنا سابقًا- قبل أن ينخفض تدريجيًا ويستقر عند المستويات الراهنة منذ أشهر، بعد تدخّلات واسعة قام بها مصرف لبنان من خلال منصّة صيرفة. ورغم وقف العمل بالمنصّة منذ رحيل الحاكم السابق رياض سلامة في بداية آب الماضي، وبالرغم من إلتزام المجلس المركزي للمصرف بسياسة عدم ضخ دولارات الاحتياطي في السوق، لم يخرج سعر صرف الدولار في السوق الموازية من دائرة الاستقرار النسبي منذ ذلك الوقت.


تفلّت الأسعار والدولرة والضرائب

تبرّر أوساط التجّار والمستوردين هذا الفارق الكبير بين نسبة تغيّر سعر صرف، ونسبة التضخّم السنوي، بالإجراءات التي اتخذتها وزارة الماليّة منذ بداية السنة، والتي أدّت إلى احتساب الضريبة على القيمة المُضافة والدولار الجمركي وفق سعر صرف المنصّة، بدل اعتماد سعر الصرف الرسمي القديم. لكن كما هو واضح، لا تبرّر الرسوم الضريبيّة وحدها هذا الارتفاع في الأسعار، والذي يوازي كنسبة مئويّة 19 ضُعف الضريبة على القيمة المُضافة. ولهذا السبب، من الأكيد أنّ هناك عوامل أخرى، أكثر أهميّة من مسألة الضريبة على القيمة المُضافة أو الرسم الجمركي، ساهمت في رفع معدلات التضخّم السنويّة بهذا الشكل غير المسبوق.

العامل الأهم، الذي أشارت إليه تقارير البنك الدولي وصندوق النقد، هو دولرة الأسعار في السوق المحليّة، والتي ثبّتت ربح التاجر والمستورد –على امتداد سلاسل التوريد- بالعملة الصعبة. وبهذا الشكل، بات الهامش أو الفارق بين الكلفة على المستورد وسعر البيع النهائي مقومًا بالدولار الأميركي، كنسبة من كلفة الشراء، بدل أن يكون مقوّمًا بالعملة المحليّة وبحسب الأسعار الرائجة في السوق، كما كان الحال منذ بداية الأزمة. وهذا العامل، تقاطع مع عامل لا يقل خطورة، وهو تفلّت الأسعار في السوق، وعدم إلتزام التجّار بأي لوائح أسعار موحّدة، وهو ما سمح بتوسيع هامش الربح بالدولار الأميركي من دون أي قيود أو ضوابط. وفي النتيجة، لم يكن هناك مفر من تسجيل معدلات التضخّم الراهنة المرتفعة.

في واقع الأمر، تم الترويج للدولرة على أنّها أداة لضبط الأسعار، ومنع تقلّبها خلال مراحل تقلّب سعر الصرف، ولإجبار التجّار على تخفيض الأسعار بالليرة عند انخفاض سعر صرف الدولار. إلا أنّ التجربة العمليّة أكّدت أنّ التجّار عمدوا خلال المراحل السابقة إلى رفع الأسعار المدولرة نفسها، لتفادي تخفيض سعرها بالليرة عند انخفاض سعر الصرف، وهو ما أبطل الفائدة المرجوّة –أو التي تم تسويقها- من الدولرة. وهذا تحديدًا ما يفسّر حماسة لوبي التجّار والمستوردين لتلك الخطوة، وسعيهم لتسويقها إعلاميًا، يوم صدر قرار دولرة الأسعار من قبل وزارة الاقتصاد، في الربع الأوّل من السنة الحاليّة.

أمّا العامل الآخر، الذي يُضاف إلى كل ذلك، فهو هشاشة سلاسل التوريد، أي تقلّص عدد المورّدين وتجّار الجملة على امتداد السوق، بسبب الأزمة القائمة. وهذا ما يتيح خيارات أقل للمستهلك، كما يسمح للمورّدين بفرض الأسعار المرتفعة بأقل قدر ممكن من التنافسيّة في السوق.

في النتيجة، جاءت معدّلات التضخّم الراهنة كنتيجة لكل تلك العوامل: من ارتفاع سعر الصرف إلى تعديل أسعار صرف الدولار الجمركي، وصولًا إلى الدولرة وتفلّت السوق وهشاشة سلاسل التوريد. المشكلة الأساسيّة هي أنّ التضخّم لا يعبّر فقط عن رقم إحصائي عابر، بل يعبّر عن تحوّلات اقتصاديّة ترتبط بشكل وثيق بمعدلات الفقر واستنزاف القيمة الشرائيّة للأجور، في بلد لم يشهد بعد أي تصحيح شامل لأجور القطاعين العام والخاص، بالرغم من كل التدهور الذي طرأ على قيمة الأجور المقوّمة بالعملة المحليّة.

تعليقات: