حلم العودة لم يكن وارداً لدى أبناء القرى السبع اللبنانية المحتلة قبل معركة «طوفان الأقصى». شعورهم الدائم بالغبن لـ«استثنائهم» من التحرير، أضعف آمالهم بالعودة، فاكتفوا بزيارات متفرقة للحدود لإلقاء نظرة على مسقط الرأس عن بعد. لكن، ما كان قبل «الطوفان» لا يشبه ما هو عليه حال أبناء القرى اليوم. إذ يجدون أنفسهم أقرب إلى استرجاع أراضيهم، ويتابعون لحظة بلحظة الأخبار الآتية من المستعمرات المقامة فوق ذاكرتهم. العودة حتمية لأن من يسكنون أراضيهم غادروها مع «أول صاروخ»، فيما هم البعيدون عنها يتوارثون تعلّقهم بها جيلاً بعد جيل. انعكس هذا التعلّق في نمط عيشهم وفي علاقاتهم ببعضهم البعض وفي أمكنة سكنهم التي حافظوا عليها في «المنافي» كما كانت في قراهم. هكذا، تجد في كل مكانٍ لجأوا إليه ما يذكّر بالبلدة القائمة خلف الخط الأزق، كما هي حال أبناء بلدة صلحا وهونين والمالكية الذين يحرصون على تسمية التجمعات التي يقيمون فيها بأسماء قراهم الأم
عام 2000، كانت الفرحة الكبرى. تحرّر الجنوب. لم تكن تلك لحظة عابرة لأهالي القرى التي عاشت سنيناً طويلة تحت الاحتلال، لحظة تساوي عمراً بحاله. وسط ذلك الفرح كله، وحدهم أبناء القرى السبع (هونين، صلحا، المالكية، ابل القمح، النبي يوشع، قدس وتربيخا) كانوا يشعرون بأن شيئاً يمنعهم من أن يفرحوا كالبقية. شيء يشبه «الغصّة، فكلّ الديار تحرّرت إلا دارنا»، يقول حسين شحرور، ابن بلدة هونين، إذ إن القرار 425 الصادر عن مجلس الأمن لم يشمل تلك القرى التي سُلخت من لبنان وضُمّت إلى فلسطين على أساس اتفاق ترسيم جرى في عشرينيات القرن الماضي بين المستعمرَيْن البريطاني والفرنسي.
شعور دائم بالغربة عاشه أهالي القرى السبع، إذ لم يعاملوا - قبل مراسيم التجنيس - معاملة اللبناني. أوراقهم الثبوتية التي خرجوا بها من دورهم كانت «ورقة يكتبها شيخ الضيعة يسجّل فيها تاريخ الميلاد، فيما بعضنا كان يملك تصاريح فلسطينية صرنا نجدّدها كما اللاجئين لدى الأمن العام»، يقول حسين المعنقي، ابن بلدة صلحا. طوال مدة ما قبل التجنيس، لم يترك أبناء تلك القرى باباً لم يطرقوه لاستعادة جنسيتهم اللبنانية، «إذ كنا نحمل قبل أن نُسلخ عن لبنان هويات دولة لبنان الكبير». ولأن أحداً لم يسعفهم في استعادة هويتهم، صاروا يتصرفون على أنهم فلسطينيون. هكذا، «عملنا البطاقات الزرقاء وصرنا نجددها متل الفلسطينيين»، قبل أن يستعيد معظم أهالي القرى السبع هوياتهم بوصفهم لبنانيين بمراسيم تجنيس أتت على دفعات، آخرها عام 1999. وكان ذلك اعترافاً متأخراً بلبنانيتهم، علماً أنهم يحفظون «أباً عن جد» تاريخ قراهم التي أُلحقت قسراً بفلسطين. ولا يزال كثيرون منهم يحتفظون بـ«حجارة من قراهم يضعونها في صالوناتهم»، يقول أحمد بربيش، ابن هونين، أو «أوراق طابو»، كتلك التي لا يزال يحتفظ بها حسين حمد بعدما تركها له والده، «وهي وراق أرضنا وبيتنا». صحيح أن حمد لا يعرف من أرضه ولا بيته سوى تلك الأوراق، ولكنّه ورث تعلّقه بها، كما غيره، «بالتواتر». وانعكس هذا التعلّق على علاقة المهجّرين من أبناء كل من القرى السبع ببعضهم بعضاً، إذ بقي الرابط بينهم قوياً، ويبدو ذلك في «الضيع» الصغيرة التي يقيمونها في أماكن متفرقة.
حي صلحا
من بين هذه «الضيع» حي صلحا في منطقة بئر حسن الذي يعود إنشاؤه إلى عام 1958، حيث بنى عدد من أبناء البلدة المحتلة «تخاشيب» بسقوف من ألواح الزينكو. شيئاً فشيئاً، تكاثرت «بيوت» الزينكو، مع تردّد أبناء صلحا على أقاربهم في الحي. «أبناء القرى السبع يلتمّون دائماً في مكانٍ واحد. بيصبوا متل بلوكات» وفقاً لابن بلدة هونين في جزئها المحتل، حسين شحرور. وكما في صلحا الأم، كذلك في الحي، عائلة المعنقي هي الأكبر وتأتي بعدها بقية العائلات: حمد والحاج ونصرلله وحمود وفرمبيش. وإلى أهالي صلحا، تسكن الحي أيضاً أقلية جنوبية وفلسطينيون قدموا إلى الحي بعد أحداث تل الزعتر واجتياح 1982، إضافة إلى عدد من النازحين السوريين.
يروي موسى المعنقي قصة نزوحه مراهقاً من صلحا. كان في السادسة عشرة من عمره، عندما بدأ «اليهود» يضربون بالمدفعية على أطراف البلدة، فهرب مع عائلته إلى بلدة يارون. يذكر «أننا كنا نبيت في سهل يارون وفي الصبح نعود إلى صلحا لإحضار ما تيسّر من أغراض البيت». حمل الصلحاويون إلى يارون قطعان الماشية والحبوب المخزنة. وبعد نحو شهرٍ، «كنا نبيت في يارون عندما سمعنا من مسجد البلدة منادياً يطالب أهالي البلدة بتسليم السلاح كي يتركهم اليهود وشأنهم». يقول الثمانيني: «قليل العقل هو من سلّم، فقد غدر اليهود بهم، فما إن سلّموا أسلحتهم حتى رموهم بالرصاص، وكان عددهم 105 أشخاصٍ». لكن، لم ينتهِ الأمر عند هذا الحد، إذ إنّ الناس الذين كانوا لا يزالون في بيوتهم أو مختبئين في «محافر الطين» على أطراف البلدة، هرعوا إلى ساحتها يسألون عمن راح، وما إن تجمعوا داخل المسجد حتى «طار» بمن فيه، وعمد بعدها المحتلّون إلى جرف ركام المسجد بمن فيه ورميه في بركة صلحا.
ألفا دونم من بلدة هونين تحررت عام 2000 وهي حصيلة كل ما تمت استعادته من القرى السبع
كانت هذه السيرة هي آخر ما سمعه أهالي صلحا عن بلدتهم. مذّاك، انقطعت الصلة بالضيعة التي هجّروا منها لتبدأ تغريبتهم.
من صلحا التي صارت وراء الشريط، لجأ موسى وعائلته وآخرون من أبناء البلدة مجدداً إلى يارون حيث أقاموا فيها 5 سنواتٍ، ومنها إلى كونين التي أقاموا فيها سنتين، فعيترون لسنتين إضافيتين، ثم إلى الطيبة «حيث أقمنا بجانب قصر أحمد بيك الأسعد، وكنت زلمته».
ثلاث سنوات، بقي موسى وعائلته الكبيرة بجوار قصر البيك، حتى صدور أمر عن الرئيس كميل شمعون يقضي بترحيل الفلسطينيين. كان أبناء القرى السبع «محسوبين» على فلسطين في ذلك الحين، لذلك «رحّلونا من الأسعدية» ومنها إلى القنطرة ثم وادي الحجير وقعقعية الجسر حيث تزوج موسى، ونزل إلى بيروت للعمل في «العمار». في العاصمة، «سكنّا في تلة الخياط، حيث كان يسكن معظم شيعة الجنوب» قبل أن يهجروها بعد سنوات إلى بئر حسن حيث أقام في الحي الذي صار اسمه صلحا. هناك، بنى تخشيبة وأقام مع عائلته التي انتقلت إلى بيروت. لكن «أوامر شمعون لم تنتهِ. داهم الجيش الحي في يوم عاصف وأزالوا كل التخاشيب»، باستثناء اثنتين أو ثلاثاً تركوها لأن نساء كن يلدن فيها. لم تنقطع «الإجر» عن «البيوت» الثلاثة في الحي و«شوي شوي رجعنا نتردد وعمّرنا».
التخشيبة التي بناها موسى وكانت عبارة عن غرفتين، أصبحت اليوم ثلاث طبقاتٍ تجمعه وأبناءه وعائلاتهم. لم يعد الحي منفى، فقد أصبح بالنسبة إلى أبنائه مسقط الرأس، و«الخيمة الأخيرة» قبل العودة إلى صلحا. ورغم بعده القسري عن الضيعة، إلا أنه كان يحرص دائماً على زيارتها، لو من بعيد، حيث «نذهب كل مدة للاطمئنان عليها». آخر مرّة «زار» فيها بلدته كانت قبل 7 أشهرٍ، عندما رافق عائلته إلى حديقة مارون الراس وعرّفهم من بعيد إلى المكان الذي كان فيه بيته وبيوت الجيران ومحافر الطين ومكان الشجرة التي كان يجلس في ظلها «الكبارية». تغيّرت معالم البلدة كلها، من اسمها الذي صار «أفيفيم» إلى أمكنة البيوت وتصاميمها حيث كانت «في السابق تُبنى من الصخر الأسود». ما بقي منها فقط المدرسة والبركة.
اسمها هونين يا حبيبي
عام 2000، لحق ببلدة هونين، أكبر البلدات السبع المحتلة، بعض من فرحة التحرير، إذ انسلّ جزء منها من تحت الاحتلال وقدّر بحوالى ألفي دونم، فيما بقي 11800 دونم من البلدة خلف الخط الأزرق. صحيح أن الفرحة كانت ولا تزال منقوصة، ولكنها «تبقى أفضل من لا شيء»، يقول بربيش، ابن البلدة. ولم يستطع الأهالي هناك التصرف بالدونمات المحررة إلا قبل بضع سنوات مع «تحديد منطقة عقارية باسم هونين أُتبعت بمرجعيون». يومها، عادت الحياة تدب في هونين وإن في هذا الجزء الضئيل، حيث وصل عدد البيوت المبنية فيه إلى 20 بيتاً، فيما المسح لا يزال جارياً حتى اللحظة. مع ذلك، لم تستطع هذه الدونمات أن تُعيد هونين، إذ لا تزال حتى اللحظة تسمى «مستوطنة موشاف مرغليوت». وقد تردد هذا الاسم أكثر مع الأحداث الأخيرة التي تلت «طوفان الأقصى».
يشعر أهالي القرى السبع أنهم معنيون أكثر من غيرهم بما يحدث. وكلما سمعوا اسم المستوطنة، خالجهم شعور مزدوج: فمن جهة يشعرون بأنهم باتوا أقرب إليها، خصوصاً مع عمليات المقاومة اليومية التي أفرغتها من المقيمين فيها. واليوم، كلما تردّدت سيرة قراهم، كلما اتّسع مقدار الأمل لديهم. لكن، يستفزّهم تماهي وسائل الإعلام مع التسميات العبرية لقراهم، وهو ما دفع بالبعض عبر مواقع التواصل لنشر سيرة القرى، فيما عمد آخرون إلى التواصل مع وسائل الإعلام، ومنهم بربيش، لتصحيح المسار. فبالنهاية «اسمها هونين يا حبيبي مش موشاف مرغليوت، وصلحا مش أفيفيم، والمالكية مش ماليكاه...»!
تعليقات: