شبح الحرب بالبقاع الشمالي: خطة طوارئ من برغل وحطب

غارة على بلدة النبي شيت قرب بعلبك عام 2006 (Getty)
غارة على بلدة النبي شيت قرب بعلبك عام 2006 (Getty)


عملية "حاد وسلس" (Sharp & Smooth)، واحدةٌ من أكبر مهمات القوات الخاصة الإسرائيليّة التّي قام بها جنود وحدتيّ "سايرت ماتكال" و"شلداغ" لمداهمة مقرّ حزب الله في بعلبك، أثناء حرب تموز 2006، وهدفت العمليّة التّي طالت مشفى "دار الحكمة" ومحلّة "تلة الأبيض"، الواقعين عند أطراف المدينة، للإطباق على ممثل "مرشد الثورة الإسلاميّة في إيران، علي خامنئي في لبنان" محمد يزبك. فيما أسفرت عن مقتل 16 لبنانيًّا - وفقًا للسّلطات اللّبنانيّة و"هيومن رايتس ووتش" – مُعظمهم من المدنيين، وجرح العشرات، وتدمير ما يربو عن 350 مسكنًا بالكامل ومئات المنازل المتضرّرة، وتهجير الآلاف الذين بقوا من دون مأوى، وضرب البنى التحتيّة.

ورغم أن التّسميّة هذه (التّي أطلقها جيش الاحتلال الإسرائيليّ على العمليّة، فيما درجت تسميتها محليًّا بـ"غارة أو إنزال بعلبك") لا تلقى رواجًا في صفوف سكّان مدينة بعلبك وقراها، لكنها حتمًا واحدةٌ من المشاهد التّي لا تغيب عن أذهانهم، في الفترة الراهنة، وفي خضم الحديث عن سيناريو الحرب الشاملة، الشبيهة بما حصل صيف 2006.


هل البقاع الشماليّ مُحيّد عن الحرب؟

وفيما يتململ الشارع اللّبنانيّ ويتقد وجلًا من فرضيّة الحرب وما يتناسل عنها من نكبة مضافة إلى سلسلة نكباته المُزمنة، يغيب تقريبًا النقاش الرسميّ عن البقاع الشماليّ، أكان من جهة الخطر الداهم الذي يُحدق بالمنطقة التّي كانت بالفعل عُرضةً للاستهداف سابقًا، والتّي قاست ما قاسته من القلاقل الأمنيّة في الإثني عشر سنة الأخيرة، بحكم قربها الجغرافيّ من الحرب السّوريّة، فضلًا عن فوضاها الداخليّة.. أو من جهة خطط الطوارئ، لإيواء النازحين إليها، أو نجدة المقيمين فيها، إن تحقق السّيناريو الجهنميّ. خصوصًا أن بعلبك الهرمل – وكما أشار محافظها – ليس مُحيدة أو بمنأى عن أي اعتداء إسرائيليّ، مستعرضًا ثلاث سيناريوهات (أثناء اجتماعه بغرفة إدارة الكوارث والمنظمات الإنسانيّة الفاعلة في المنطقة) تتضمن وقف الحرب أو انحسارها في الحدود الجنوبيّة، أم الثالث فاستشرف المحافظ أن تكون وطأة الحرب الشاملة على لبنان وتحديدًا البقاع، أقسى وأكثر وحشيةً عن السّابق. وهذا المنطقيّ إذا ما أخذنا بالاعتبار، أن الداخل السّوريّ لم يعد كما كان عام 2006، حيث نزح رهطٌ من اللّبنانيين، وتحديدًا أهل البقاع الذين تجمعهم والجانب السّوريّ روابط تاريخيّة وتشعبات جغرافيّة ووشائج عائليّة. ناهيك بالأزمة الاقتصاديّة التّي أرخت بأثقالها على كواهل البقاعيين المنهكة أساسًا.


معاينة ميدانيّة

دفن الموتى على عجالة، إقامة مراسم العزاء والتّأبين بصورةٍ موجزة، تأجيل حفلات الزفاف، إغلاق المتاجر قبل ساعات من موعد الإغلاق الروتينيّ، اضمحلال الحركة التّجاريّة في الأسواق الشعبيّة وأسواق الخضار (الأربعاء والسّبت)، انتفاء مظاهر الغبطة والانشراح في الشوارع العموميّة، تهافتٌ نسبيّ لشراء الأدويّة والطحين والمعلبات وتحضير مؤون الشتاء، حركة مرور خانقة، نزوح سكّان بيروت والضاحيّة إلى قراهم، تلاشي المظاهر الشبابيّة الاعتياديّة وخصوصًا أصوات الموسيقى الشعبيّة المنبعثة من السّيارات لتحل محلها أناشيد "حزب الله" و"المقاومة"، انتفاء الحركة السّياحيّة، أكان في الآثار التّاريخيّة (القلعة ومحيطها) والمطاعم، تكثيف الاحتياطات الأمنيّة في داخل وبمحيط مرقد "خولة بنت الحسين". تحضيرات للشتاء، وشراء أطنان من الحطب (في ظلّ عدم توافر المازوت وغلاء أسعاره).

تفاصيلٌ قد تبدو مجهريّةً أمام ما يشغل الرأي العام وما يتمظهر في الشارع اللّبنانيّ، لكنها في الواقع، حال مدينة بعلبك وقراها منذ السّابع من تشرين الأول الفائت، التّي جالت "المدن" في مختلف أنحائها. التّرقب والتّوجس هما مزاج الشارع البقاعيّ. الذي وُضع مجدّدًا على هامش الأولويات كما جرّت العادة. جمودٌ عام واعتصامٌ بالصمت يتناقضان مع حال المدينة التّي عاشت "صيفًا استثنائيًّا" و"فورةً اقتصاديّة وسياحيّة واجتماعيّة"، منذ أشهر، مقرون بتوافد للسياح العرب والأجانب وتحلحل العجلة الاقتصاديّة وانتعاشٌ مُنقطع النظير، مقارنةً بالسنوات الأربع الفائتة. التّوجس سيد المشهد، فيما تبقى التّحضيرات منوطة بالأفراد لا بالسّلطات الرسميّة.


خطة طوارئ

وليس في هذا النبأ أي مبالغة، فخطة الطوارئ الشاملة، التّي وضعتها الحكومة والتّي خصت المنطقة بعدّة مشاريع وخطوات استباقيّة في حال تحقق السّيناريو السيء، وجرى التّباحث بها وحسب، خلال اجتماع المحافظ مع المنظمات والهيئات الإنسانيّة والإغاثيّة والحزبيّة، في 26 تشرين الأول الماضي، لم يعقبه أي اجتماع آخر، ولم يتمّ تطبيق أي إجراء منها حتّى اللحظة، فيما تعزو المصادر الرسميّة في المحافظة التّي تواصلت معها "المدن" (مُفضلةً عدم التّصريح عن اسمائها) غياب التّطبيق، والاكتفاء بإنشاء خلية أزمات أو غرفة إدارة الكوارث فقط، لسببين:

- تفادي بثّ حالة الفزع والتّخوف لدى المواطنين، والمحاولات الحثيثة لطمأنتهم، وتدارك تبعات التّخوف العام، وما يلحقه من

- انعدام التّمويل اللازم لهذه المشاريع، من المشافي الميدانيّة والمخيمات والملاجئ المؤقتة وصولًا لخطط الطوارئ المرتبطة بالغذاء والدواء والإيواء. وانحسار الخطط الطارئة بكل من الصليب الأحمر الدوليّ، المنظمة الدوليّة للهجرة، منظمة ريليف Relief، هيئات الأمم المتحدة، كوكالة الغوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا" والمفوضيّة السّاميّة لشؤون اللاجئين UNHCR.

فيما أشارت مصادر من الصليب الأحمر ومنظمة ريليف، لكونهما في أتمّ الجهوزيّة لدعم هذه الخطط، وبدأت المساعي تتجلى على الأرض، بينما أكدّت المفوضيّة على لسان الناطقة باسمها، ليزا أبو خالد، أنه " بالتّعاون مع الحكومة، تدعم المفوضية مشاريع الاستعداد والاستجابة بالتّنسيق الوثيق مع وكالات الأمم المتحدة والشركاء الآخرين. وتقوم المفوضية حاليًّا بدعم النازحين في جنوب لبنان بمواد الإغاثة الأساسيّة. وقد تم وضع خطط الطوارئ الخاصة بالمفوضية والوكالة مستعدة لدعم احتياجات النازحين".

يُذكر أن "المدن" اتصلت بعدّة مستشفيات في مدينة بعلبك، لكن لم يتمّ إجابتها على استفساراتها المتعلقة بخطط الطوارئ الخاصة بها أو التّقييم الشامل للوضع الحاليّ، من الناحيّة الصحيّة. كما حاولت "المدن" التّواصل عبر الهاتف مع محافظ بعلبك- الهرمل بشير خضر، من دون أن تحظى بإجابة حتّى لحظة كتابة هذا التّقرير.


طوارئ شعبيّة

"اشتريت ما يُقدر بثلاثين كيلو طحين، وجهزنا الحطب للشتاء بالأطنان، ونعمل على شراء المزيد من البرغل والباذنجان، وإعداد المزيد من الكشك والباذنجان والبندورة المكبوسة، احتياطًا، وتحسبًا للأسوأ". تُشير السّيدة الخمسينيّة فاطمة الجبلي القاطنة في إحدى القرى المحاذية لبعلبك، مُضيفةً: "كنا قد عقدنا العزم على إمضاء فصل الشتاء في بيروت أنا وزوجي وابنتي، لتوفير الحطب والمازوت من أجل المدفأة، لكن وبسبب الظروف الحاليّة، تراجعنا عن قرارنا. بل وتقطن أختي وابنها، عندنا مؤقتًا، هربًا من منزلها في الضاحيّة". خاتمةً:" لست وحدي المتوجسة من الحرب، كل أهل الضيعة بدأوا بالتّحضيرات، مترقبين حال الجنوب، لكن في حال حصلت حرب، ليس باستطاعتنا النزوح وخصوصًا أن أحوالنا الماديّة في تدهورٍ مزمن".

وأشار عدد من سكان القرى القريبة لبعلبك أن بعض البلديات كـ"يونين" و"نحلة" و"مقنة" وغيرها، تعمل على فرض إجراءات احترازيّة، من تجهيز البنى التحتيّة، إلى فتح المستوصفات مجدّدًا. فيما أُعيد تنصيب الحواجز الأمنيّة في المدينة وأطرافها وتكثيف الاحتراز الأمنيّ فيها.

ولشدّ ما قد يبدو عصيًّا الاطلاع على الخطط التّي أعدها حزب الله لمساعدة البقاعيين، أو "خزان الدم" كما جرى تسميتهم في الأدبيات السّياسيّة اللّبنانيّة، فإن مصادر مُطلعة أشارت إلى "المدن"، أن التحضيرات لخطط طوارئ تشمل الغذاء والدواء والإيواء، باتت شبه مُنجزة، ووزعت على كل الهيئات الصحيّة في بعلبك، التّي أشار أحد المتطوعين فيها أنهم بصدّد عرض هذه الخطط على الجهات الرسميّة وسيتم تنفيذها بالشراكة مع هذه الجهات، والهيئات النسائيّة للإحصاء، وغيرها من الفرق الحزبيّة. وهذا ينطبق أيضًا على حركة أمل. فيما يبدو وضع "المعسكرات" التّي يُدرب فيها حزب الله مقاتليه فضلًا عن مكاتبه في البقاع الشماليّ، مبهمًا حتّى اللحظة.


"أزمة اللجوء"

وفيما يمّوج البقاعيون توجسًا وفزعًا من سيناريو "الحرب الشاملة"، أشارت عدّة مصادر حقوقيّة وأمنيّة لـ"المدن"، أن حال الفزع لم يلغ حال الغضب مما أسمته "تفاقم أزمة اللاجئين السّوريين" والحدود اللبنانيّة – السّوريّة المفتوحة على مصرعيها، خصوصًا أن البقاع يُعد الأول من حيث انتشار اللاجئين. وفي حين يذهب البعض لاعتبار أن حركة التّدفق السّوريّ من الحدود الشماليّة والشماليّة الشرقيّة قد اضمحلت مقابل التّهديد الأمنيّ الذي يطال لبنان في حال تحقق سيناريو الحرب، فإن الجيش قد أعلن (في بيانٍ صدر عنه) منذ أيام عن تمكنه من إحباط نحو 600 محاولة تسلّل لأفراد من التّابعيّة السّوريّة، فقط في الأسبوع الذي سبق الإعلان، قبالة الحدود اللّبنانيّة- السّوريّة.

وفيما تستمر المعالجات العاطفيّة وغير العملانيّة لحلّ مسألة اللجوء السّوري، تستفحل الحملات الأمنيّة والشعبيّة العنصريّة لطرد اللاجئين، التّي ازدادت وتيرتها في البقاع الأوسط والشماليّ مؤخرًا (من حيث المداهمات لمساكن والمخيمات وتحديدًا بر إلياس، كما تشير مصادر حقوقيّة)، بالتّزامن مع التّحضيرات، ومع رواج العقيدة التّي تُقارع اللاجئين وتعتبرهم "أول المتواطئين مع العدو في حال نشبت الحرب".

ومن جهتها تؤكد أبو خالد، أن المفوضيّة تقوم بدعم كل من المتضررين والنازحين وجاهزة لدعمهم في حال وقعت الحرب بغض النظر عن جنسيتهم.

تعليقات: