لا يكاد عدوان إسرائيلي يحصل في فلسطين أو في لبنان إلا ويرافقه عدوان إعلامي ونفسي على المقيمين اللبنانيين في البرازيل وجوارها. اللبنانيون الفاعلون اقتصادياً يشكّلون هدفاً إسرائيلياً وأميركياً منذ أكثر من عقدين، وتُوجه إليهم اتهامات تهدف إلى شيطنتهم والتشكيك في وطنيتهم، وفي كثير من الأحيان ابتزازهم مالياً وحتى نفسياً. وآخر نوع من تلك الاعتداءات جاء عبر حملات إعلامية مكثّفة على خلفية توقيف برازيلييْن وسوري يحمل الجنسية اللبنانية بناءً على معلومات أرسلها «الموساد» الإسرائيلي إلى الشرطة الفيدرالية البرازيلية.
في اللحظات الأولى لتوقيف البرازيلييْن لوكاس ليما وجيان دي سوزا، عمدت كبرى المحطات الإعلامية إلى تحوير متعمّد في جنسية الموقوفين وبقيت تردّد على مدى ثلاثة أيام أن هؤلاء لبنانيون يسعون إلى شنّ هجمات على مصالح «يهودية» في البرازيل بناءً على طلب من حزب الله. لكنّ المفاجأة جاءت من الجهات القضائية التي نفت ما رُوّج له. علماً أن الشابين استغربا التهمة، وبكى أحدهما قائلاً: «لا أعرف حتى من يكون حزب الله»، فيما قال الآخر إنه مندهش من هذه القضية التي وصمته بالإرهاب فقط لأنه كان «يسافر كثيراً ولا سيما إلى لبنان». أما المتهم السوري محمد خير عبد المجيد فقد أُوقف بتهمة نشره على حساب «فيسبوك» صوراً له مرتدياً بزّة مقاتلي الحزب، وهو أوضح في التحقيق بأنه شارك في القتال سابقاً ضد الجماعات الإرهابية في سوريا. وأظهرت النشرة الأمنية لعبد المجيد أنه ملاحق بشبهة تهريب وبيع مشروبات روحية وبضائع أخرى.
ورغم تعاون «الموساد» مع الشرطة الفيدرالية البرازيلية في هذا الملف، إلا أن هذه القضية كادت أن تطيح بالعلاقات بين الطرفين بعد نشر وسائل إعلام إسرائيلية تبنّي جهاز الاستخبارات الإسرائيلي ما أسماه بتفكيك خلية تابعة لحزب الله في البرازيل. وهو إعلان أثار حفيظة الحكومة البرازيلية التي أصدرت بياناً شديد اللهجة، معتبرة أنها لا تعمل ضمن أجندات خارجية، وأنها تؤدّي واجبها ولا يمكنها إصدار أحكام مسبقة، وتقتصر مهامها على التحقيق فقط وإرسال الملف إلى القضاء للبتّ فيه. كما أنذر البيان الرسمي الصادر عن جهات أمنية في البرازيل «الموساد» باحتمال وقف أي تعاون معلوماتي أو استخباراتي في حال استمرار السلوك الحالي الذي ينال من هيبة البرازيل ومؤسساتها.
اتهام برازيلييْن وسوري بتشكيل خلية لحزب الله وحكومة لولا تستنكر تدخّلات العدو!
ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحد. فبعد تغريدة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن «فضل بلاده» في إحباط هذه العملية، جاءت زيارة السفير الإسرائيلي في البرازيل دانيال زون شاين للرئيس السابق جايير بولسنارو محاولاً إهداء عملية إجلاء البرازيليين من قطاع غزة إليه، لتثير غضب الحكومة البرازيلية. فسارع وزير العدل فلافيو دينو إلى إدانة هذه التصرفات، محذّراً من التعدّي على سيادة بلاده، ومؤكداً أن القضية المثارة هي «مجرد اشتباه نعمل على كشف حقيقته»، ودعا إلى عدم إثارة أجواء قد تؤذي الوجود اللبناني الفاعل في البلاد. أما القصر الرئاسي فقد أبدى غضبه من سلوكيات السفير الإسرائيلي. وقالت مصادر القصر لـ«الأخبار» إن الرئيس يفكر جدياً بطرد السفير الإسرائيلي «الذي لم يعد يطاق» بحسب المصدر.
هذه الأزمة كشفت عن محاولة إسرائيلية فاضحة لقيادة حرب شاملة خلف الأطلسي وتجاهل الحكومات والمؤسسات المحلية، ووصلت إلى حدّ اتهام الصحافي البرازيلي بيبي سكوبار لإسرائيل بمحاولة الإطاحة بالرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا الذي وصف الحرب على غزة بعملية الإبادة الجماعية، ودعا إلى وقف فوري لإطلاق النار وإعادة الحقوق الفلسطينية كاملة وإلى منح الفلسطينيين دولة عاصمتها القدس الشرقية.
من جهته، قال الكاتب البرازيلي ليوناردو ستوبا لـ«الأخبار» إن البرازيل بلد لا يقبل الإهانة ولا يحكمه اليوم بولسنارو الذي عرّض سيادة البلاد للتدخلات الخارجية، لافتاً إلى أن السفير الصهيوني «شخص معادٍ للديمقراطية البرازيلية وعلى حكومتنا طرده فوراً». وطالب ستوبا الشرطة الفيدرالية بإيضاح فوري لقضية الموقوفين لأنها تبدو مدبّرة بنوايا خبيثة، ووصف إسرائيل بـ«كيان مريض يقوده رئيس وزراء موتور».
ماذا تفعل السفارة والقنصليات في البرازيل؟
قد يبدو حظ اللبنانيين المقيمين في البرازيل جيداً لأنهم ينعمون بحكم لولا دا سيلفا الذي يعرفهم عن قرب، ويتودّد إليهم في كل المناسبات، ولا يرتضي أن يتحولوا إلى رهائن إعلام عدائي يتحكّم بمزاج الرأي العام، وينشئ حالة كراهية لمغتربين ساهموا في بناء البرازيل وتنمية اقتصادها. لكنّ هذا الحظ يتعثّر حين يكتشف اللبنانيون أن سفارتهم وقنصلياتها لا تعدو مجرد مؤسسات فاشلة، فلا تقدّم أي عون لهم في الأزمات، بل تظهر في حالة التواطؤ وترك الرعايا فريسة للآخرين. فالبعثة الدبلوماسية اللبنانية تهتم ببناء علاقات مع أقصى اليمين المتطرف، بمؤسساته وشخصياته، مثل رئيس «نادي جبل لبنان» كلاوديو داوود الذي أصدر بياناً باسم النادي تضامن فيه مع «ضحايا إسرائيل الذين سقطوا على يد الإرهاب الفلسطيني» متمنياً «استعادة إسرائيل قوتها وتخطّي هذه المأساة». فيما لم يصدر عن هذا النادي الذي تعتبره صفحة القنصلية اللبنانية في ساو باولو شريكاً وصديقاً، أي تنديد بالجرائم الصهيونية في غزة.
واللافت أن القنصل اللبناني في ساو باولو رودي القزي لم يلبِّ أي دعوة تضامنية مع غزة بحجة ابتعاده عن النشاطات السياسية في هذه المرحلة، بينما كان يعمل على تطويق الغضب اللبناني في البرازيل من مواقف «شركاء القنصلية» عبر دعوة الفعّاليات والجمعيات إلى لملمة هذا الأمر.
أما على مستوى المؤسسات المشتركة بين البرازيل ولبنان، فقد طفت على الواجهة الجبهة البرلمانية اللبنانية ـــ البرازيلية التي أطلقت تأسيسها القائمة بالأعمال في السفارة اللبنانية كارلا جزار في الثاني من آب الماضي، لكنّ المفاجأة أن لائحة البرلمانيين في الجبهة تشترك بـ 28 نائباً مع الجبهة البرلمانية الإسرائيلية ـــ البرازيلية، وعلى رأسهم اليبيو برونيني الذي قدّم مشروع قرار لمجلس النواب لضمّ حركة حماس وحزب الله إلى لائحة الإرهاب وتأييد المجازر في فلسطين. أما النائبة الثانية في الجبهة البرلمانية اللبنانية ـــ البرازيلية كارلا زامبيلي، فهي من الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي للتحريض على اللبنانيين من خلال التسويق لنظرية «خلية حزب الله في البرازيل»، ولها مواقف متشدّدة من الفلسطينيين وشديدة التأييد لإسرائيل. والنائب الثالث في الجبهة البرلمانية اللبنانية ـــ البرازيلية هو غوستافو غاير الذي أعدّ لائحة طويلة تضمّ أسماء مفكّرين وأساتذة وصحافيين وناشطين سياسيين برازيليين متعاطفين مع القضية الفلسطينية وأرسلها إلى السفارة الأميركية، ما أدّى إلى إلغاء التأشيرات لكل الشخصيات التي وشى بها.
تعليقات: