محنة قوى الأمن الداخلي: عوز لا يُصدّق وفاقة مهينة

تتراكم حالات الوفاة الاعتباطيّ والفرار والانتحار (مصطفى جمال الدين)
تتراكم حالات الوفاة الاعتباطيّ والفرار والانتحار (مصطفى جمال الدين)


في الفترة المُبكرة من حكم حافظ الأسد، وبُعيد حرب تشرين (أكتوبر) عام 1973 تحديدًا، دَرج لقب "جيش أبو شحاطة" بين أوساط السّوريين والعرب المُناهضين لنظام الأسد حينها. في دلالةٍ على أن الجيش السّوري بحالة جنوده المأساويّة لم يكن قادرًا على مواجهة الجيش الإسرائيليّ لولا مُساندة الجيوش العربيّة الأخرى.

وليس تحاملاً أو ازدراءً هو القول إن حالة الجيش المُشرذم والمُفقر هذه، بدأت تتسلّل تباعًا وتتخذ لها مكانةً من حيث التّحلل الاجتماعيّ والفاقة الاقتصاديّة إلى ربوع المؤسسات العامة اللبنانيّة وتحديدًا الأسلاك الأمنيّة والعسكريّة. فإن أمعنا النظر باللقب الذي أُطلق كنايةً عن أوضاع جنود الجيش السّوري المُزريّة، وماثلناها بأوضاع العناصر الأمنيّة والعسكريّة اللبنانيّة في حقبة الانهيار الأخيرة، فإن شبح الرثاثة نفسه سيشخص للعيان، حتّى ولو أنكرناه مدّةً طويلة. ذلك بمعزلٍ عن التّناقض الصارخ بين النموذجين، من حيث النظام العام والتّاريخ والبنيّة، وأسباب التفقير والتدهور البنيويّ الحاصل.


الأزمة المستمرة وانسداد الأفق

"أستلم راتبي أول الشهر والذي لا يتعدى المئة وعشرين دولارًا، أُسدد فيه ما يتوجب عليّ، مغتبطًا بحلول ميعاد "القبض"، لكن وسرعان ما تمرّ لحظات الغبطة والانشراح هذه، أعود إلى مستوعبات النفايات لجمع البلاستيك والتنك، لتأمين لقمة عيشي وأسرتي، بعد خدمتي للوطن ثلاثين سنة".

لم يخطر في بال المؤهل المتقاعد شربل خوري، ولدى إجابته عن استفسارات "المدن" المرتبطة بأوضاعه المعيشيّة، أن جملته هذه ستكون مقدمة الحديث عما آلت إليه ظروف عناصر قوى الأمن الداخليّ، بعد أربع سنوات على الانهيار مُتعدّد الأوجه (كما اُصطلح على تسميته، اقتصاديًّا). بل سيكون الموجز الكافي، للأزمات التّي ينوء بحملها العناصر المتقاعدون وفي الخدمة الفعليّة، المُغتاظون والسّائمون من وضعهم المعيشيّ المُتدهور، والتّي غصّت ساحات التّظاهر بصورة شبه دوريّة بهم، طيلة العام الحاليّ.

وفيما كانت غاية هذه التظاهرات الاحتجاجيّة، محاولة هؤلاء المُستميتة لإقناع الحكومة اللّبنانيّة بلائحة مطالبهم التّي لا تعدو سوى كونها حاجات وحقوق بديهيّة، كالرواتب اللائقة، والطبابة والتّعليم وأساسيات الحمايّة الاجتماعيّة. إلا أنّه اليوم، وبحلول نهاية العام الحاليّ، لا تزال الأزمة تستفحل باطراد، فيما يستمر تخبط العناصر هذه، في الحلقة المُغلقة بين الوعود والتّمنيات والتّجاهل الرسميّ وشظف العيش.

فإلى جانب تدني قيمة الرواتب، التّي تتراوح حاليًّا بين 120 و800 دولار أميركيّ كحدٍّ أقصى (للضباط ذوي الرتب العالية)، تنبثق أزمة الطبابة والاستشفاء والمنح التّعليميّة والمحروقات، مجدّدًا لتنال الحصّة الأكبر من هموم هذه العناصر، المتوجسة كما سائر اللّبنانيين من توسع رقعة الاشتباكات جنوبًا وتورط لبنان بحربٍ شاملة، خصوصًا بظلّ فقدانهم لأمنهم الاجتماعي والصحيّ والغذائيّ، الواقع الذي حتمًا سيُعمق أزمتهم.


المحروقات وبدلات النقل

ولما كانت السّلطات المعنيّة وتحديدًا المديريّة العامة لقوى الأمن الداخلي عاجزة عن اجتراح حلول لعناصرها المفقرين، نتيجة الخصام السّياسيّ (بين المدير العام ووزير الماليّة) وإبقاء الموازنة العامة للمديريّة نفسها من قبل الحكومة، من دون الأخذ بالاعتبار حجم الأزمة الماليّة وواقع أن المؤسسة الأمنيّة هذه هي من آخر المؤسسات المُنتجة التّي تدر الأموال للخزينة العامة، على خلاف الجيش الذي زادت موازنته لتتماشى ولو لمامًا مع الأزمة (حسب ما أشار مصدر رفيع المستوى في المديريّة). برزت "الحلول التّرقيعيّة" لسدّ الفجوة المتسعة بين التّطلعات الرسميّة والظرف الأمنيّ وأوضاع العناصر في الخدمة الفعليّة، وآخرها كان صرف مستحقات "بدل النقل" البالغ قيمتها 5 مليون ليرة لبنانيّة (56 دولارًا على سعر صرف السّوق السّوداء حاليًا). دُفعت للمرة الأولى مطلع تشرين الثاني الجاري.

أما المتقاعدون من المؤهلين والمؤهلين أول، الذين تمكنوا كما أشرنا في تقاريرنا السّابقة منذ عدّة أشهر (راجع "المدن") من انتزاع حقّهم بمستحقات المحروقات، بناءً على المرسوم 1595/84 الذي ينصّ على تحديد تعويضات المؤهلين والمؤهلين الأول من رتباء الجيش وقوى الأمن الداخلي والأمن العام، مخصصًا نسبة 75 بالمئة من قيمة التعويضات المُخصصة حسب الوضع العائلي لملازم درجة أولى في الخدمة الفعليّة أو في التقاعد (ومن جملتها المحروقات، 5 صفائح بنزين)، لم يحصلوا للآن على هذه المستحقات بالرغم من المطالبات والمحاولات الحثيثة لروابط المتقاعدين.

وفي هذا السّياق يشرح المؤهل أول المتقاعد والمشرف العام على مجموعة" رتباء متقاعدي قوى الأمن الداخلي" شفيع الأيوبي، في حديثه إلى "المدن" قائلًا: "بعد عدّة تحركات نفذناها للحصول على حقنا في المحروقات التّي حُرمنا منها منذ عام 2019، واستماع وزير الداخليّة إلينا، لفرض إرجاع هذا الحقّ، على اعتبار أن المديريّة سوف تعطينا 75 بالمئة حسب ما تفرضه المراسيم، أي بإعطاء 5 صفائح، وبالفعل صدرت الجداول المتعلقة بالمحروقات للمؤهلين والمؤهلين الأول، ولدى وصولها لوزارة الماليّة بعد تقديمها لوزير الداخليّة، وقع وزير الماليّة على صرف مستحقاتنا، لكننا للآن لم نحصل على حقنا، ولا تزال عالقة بين وزير المال والمدير العام". وعقب أيوبي بالقول: "سنجتمع قريبًا بوزير الداخليّة، لمتابعة الموضوع". مؤكدًا أن الوزير هو الوحيد الذي يتجاوب مع مطالبهم.

يُذكر أن المؤهلين والمؤهلين أول في الخدمة الفعليّة قد تم خصم صفيحتين ونصف من مستحقاتهم من المحروقات لتسديدها للمتقاعدين، فيما لم يحظ الجانبان حتّى اللحظة على الوعود التّي بثتها المديريّة. وبقيت مستحقات الضباط أكان في الخدمة الفعليّة (عشرون صفيحة بالإضافة لخمسة صفائح للضباط المفروزة لهم آليات عسكريّة) والمتقاعدين (7 صفائح ما دون رتبة المقدم)، على حالها.


الطبابة والاستشفاء

أما الطبابة والاستشفاء، فمعضلتها استجدت بُعيد عودتها منذ أشهر، وطالت كل من هم في الخدمة الفعليّة والمتقاعدين، إذ أن معظم المشافي على امتداد لبنان تمتنع حدّ اللحظة عن استقبال عناصر قوى الأمن الداخليّ وذويهم على نفقة المديرية العامة لقوى الأمن الداخليّ، (خصوصًا تلك الكبرى في بيروت والشمال) على اعتبار أن قوى الأمن الداخلي تُسدد الفواتير على سعر صرف متدنٍ (4 آلاف ليرة عادةً)، وبذلك تقبل التّعهد شريطة دفع الفروقات بمبالغ ضخمة وبالدولار الأميركي الفريش، وهنا يُشير المؤهل الأول المتقاعد وليد الحسين، قائلًا: "منذ أيام الانتفاضة، أُصبت بإصابة مباشرة في خدمتي الفعليّة. لكنني لم أتمكن للآن من معالجتها، خصوصًا أن مشفى الكورة الذي راجعته طالبني بـ600 دولار أميركيّ فريش والاستحصال على مستحقاتي من الطبابة من المديريّة لاحقًا وبظلّ عجزي عن تأمين المبلغ، لا أزال أبحث عن سبل لمعالجة إصابتي، من دون أن توفر لي المديريّة هذا العلاج".

ويستطرد الأيوبي في هذا السّياق بالقول: "الطبابة هي أكبر الأزمات التّي نواجهها حاليًّا، وفيما تلتزم بعض المستشفيات بنهج الخدمة نفسه، باستقبال العناصر وعائلاتهم وفقًا للإجراءات المعتادة مقابل رسوم رمزية لتسجيل الدخول، ترفض بعض المؤسسات استقبال هؤلاء الأفراد على حساب المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، علماً أن الطبابة لا تشمل المعدات الطبيّة، بل تتوقف على الاستشفاء الأساسيّ. وتحاول المديريّة دفع فواتير المعدات الطبيّة، عبر مساعدات استشفائيّة لاحقًا، ولا تتجاوز قيمة هذه المساعدات التّي تُقدم للعناصر لاحقًا نسبة العشرة بالمئة". مضيفًا: "هذا من دون ذكر واقع الأدويّة التّي لا تؤمن، وخصوصًا أدوية السّرطان التّي تقدمها المديريّة لكن لا تصرفها وزارة الصحّة".


المُحالون إلى التّقاعد حديثًا

كل سنة وفي هذا التّوقيت يُحال المئات إلى التّقاعد بعد بلوغهم السّن القانونيّ، لكن يختلف هذا العام عن غيره من الأعوام. إذ تقرر صرف تعويضات المحالين إلى التقاعد (ما يناهز الألف) على أساسٍ شهريّ، أي سيحصل كل متقاعد على مبلغ يساوي تقريبًا خمسة ملايين ليرة مضافة إلى راتبه التّقاعدي، إلا أن اللافت الذي كشفت عنه الأصوات المعارضة، هي أن بعض المصارف ستقوم بصرف جزء من هذه التعويضات كقسائم شرائيّة (تتجاوز 15 مليون ليرة)، فيما أشارت المصادر المطلعة في المديرية لكون كل من بنك "سوسيتيه جنرال" و"الاعتماد اللبناني" قد باشرا بهذه العمليّة.

وبخروج هؤلاء إلى التّقاعد يتأجج النزيف البشريّ (ما دون 25 ألف عنصر للآن هم مجموع عناصر قوى الأمن الداخليّ) الذي تُعاني منه المديرية أكان من جهة خسارة المزيد من العناصر في ظلّ التوقف عن تطويع عناصر ورتباء وحتى ضبّاط منذ أربع سنوات، وذلك بسبب قرار الدولة اللبنانية بوقف التوظيف. ومن جهة أخرى تتراكم حالات الوفاة الاعتباطيّ والفرار والانتحار، وآخرها كان انتحار ثلاثة عناصر في اليوم نفسه، الشهر الفائت (راجع "المدن").


هذا فيما عبّر عدد من العناصر في الخدمة الفعليّة عن غضبهم من الإجراءات المستحدثة والتّي تتناقض مع ما وعدت به المديريّة من تسهيلات تختص بالعمل بدوامات أخرى لتأمين المزيد من مصادر الأموال. إذ أن عددًا من العناصر تمّ استجوابهم بما يرتبط بموضوع العمل في مجال الحراسة أو خدمة "الديلفري"، والتّمني عليهم بوقف مزاولة عملهم الجانبي لما يُشكله من "تشويه صورة المؤسسة".

تعليقات: