العائلات تنزح كيلومترات قليلة فقط: لتبقى عيونهم ترى قراهم

يتكافل الجنوبيون مع بعضهم البعض (Getty)
يتكافل الجنوبيون مع بعضهم البعض (Getty)


يبدو أن سكان قرى الشريط الحدودي مضطرون إلى النزوح، فيما هم لا يرغبون بالخروج حقاً. ولذا، نراهم لا يبتعدون عن قراهم كثيراً. بالكاد انتقلوا كيلومترات عدة وحسب، وعلى مبدأ "لو نظرت ورأيت ضيعتي يظل قلبي مرتاحاً". إنها ظاهرة مستجدة، حيث الناس تصارع امتناعاً عن التهجير.

هكذا انتقلت فئة من سكّان القرى الملاصقة للحدود إلى أخرى قريبة لها، لا تبعد سوى 6 إلى 15 كلم عن المناطق التي تتعرض لقصف إسرائيلي عنيف ومستمر. فحسب الوقائع اليوم، فإنّ المواجهات تنحصر في القرى المحاذية لما كان يسمّى قبل التحرير عام 2000 بالشريط الحدودي، عدا عن الخروقات التي قام بها العدو الاسرائيلي. ولذا، اتّجهت عائلات كثيرة إلى مناطق داخلية قريبة. وفاق العدد 15682 نازحاً (راجع "المدن"). منذ حوالى 25 يوماً بدأ النزوح تدريجياً إلى القرى القريبة من الحدود والآمنة نسبياً، مثل شقرا وصفد البطيخ وتبنين والسلطانية (قضاء بنت جبيل) وغيرها من تلك التي تُصنف خارج نطاق الميدان.

وعلى الرغم من القصف الذي يطال وادي السلوقي الواقع بين بلدتي حولا (قضاء مرجعيون) وشقرا، لا تزال هناك عائلات تتوجه إلى البلدة. وحسب مصادر "المدن"، فقد بدأ الضغط الفعلي منذ حوالى 15 يوماً. وغالبية العائلات التي تتّخذ المناطق القريبة منها مسكناً آمناً نزحت من قرى مثل حولا، وبليدا، وعيترون، وميس الجبل، وعيتا الشعب، والعديسة، وكفركلا.


إلى شقرا وصفد البطيخ

حسب محمد عاشور، وهو موظف في بلدية شقرا ودوبيه ومعنيّ بمتابعة ملف النازحين الآن، وصل العدد إلى 55 عائلة في البلدة، وهو يتزايد بشكل يومي. ويضيف، "عمّمنا حوالى المرتين طلباً إلى الأهالي الذين لديهم منازل إضافية غير مسكونة، أو شقق، أو غرف، لتقديمها للنازحين"، يقول عاشور. ويعتبر أن العائلات النازحة ليس باستطاعتها أن تستأجر، لذلك ما يقدّم هو بالمجّان.

عند سؤال أحد السكّان النازحين من بلدة ميس الجبل التي لا تبعد سوى 7 كلم عن شقرا، عن سبب عدم توجّهه إلى مناطق بعيدة، اكتفى بالقول: "مناطق مثل صور لن أجد فيها راحتي، هنا الضيعة تشبه ضيعتي، وأراقب عن كثب على التطورات التي تحدث".

فعلياً، يؤكد أهالي القرى القريبة من الحدود أن التنقّل في أطراف البلدة "بات مخيفاً"، خصوصاً بعد الاستهدافات القاتلة التي تطال مدنيين وصحافيين، وهو ما أظهرته همجية الاحتلال في اليومين الأخيرين، والتي أسفرت عن استشهاد صحافيين وما لا يقل عن 5 مدنيين في الجنوب.

يقول محمد عاشور: "قدم لنا مجلس الجنوب 38 حصة غذائية تموينية، وهي غير كافية بشكل تام. وأهالي البلدة يساعدون قدر المستطاع في تأمين مستلزمات النوم والتدفئة من لحف ومخدات وغيره، ومؤسسة نعيم أيوب قدمت 10 مدافئ". وتقوم البلديات بتسجيل كل تفاصيل العائلات النازحة: الاسم، والعدد، والأعمار، والاحتياجات. ويتم تقديم هذه اللائحة إلى اتحاد بلديات قضاء بنت جبيل ليعمل على أساسها، والصليب الأحمر طلب أيضاً هذه الأسماء.

وفي توضيح للصعوبات التي يواجهها النازحون والمقيمون معاً، فإنّ سكّان القرى الحدودية الجنوبية معروفون بأنّ غالبيتهم من المزارعين، بما معناه أن مصدر رزقهم يعتمد على العمل اليومي. لذلك ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية، ومن ثمّ تصاعد التوتّر في الجنوب، أفقد هذه العائلات مدخولاً تعتاش منه. فالعائلة المكونة من 7 أشخاص مثلاً، لن تكفيها كل ما يقدّم لها، خصوصاً مع انطلاق موسم الشتاء وما يتطلّبه من احتياجات أساسية. وفي وصف واقع النازحين، يشرح أحد القاطنين في شقرا، بلغة عسكرية: "أنا بدي رصاص وبدي بارودة وبدي درع، الرصاص ما بيكفّي".

يؤكد معظم سكّان هذه البلدات أنّهم في حالة تأهب دائمة، ومعرضون في أي لحظة لقصف معادٍ. المفارقة، أنّ سكّان قرى شقرا وتبنين وصفد البطيخ والأخرى القريبة منها، نزحوا في بداية تصاعد التوتر. فالمقتدرون استأجروا منزلاً في مناطق بعيدة، وآخرون توجهوا إلى منازلهم أو منازل أقربائهم في بيروت وضواحيها، وآخرون عادوا إلى القرية "طالما أنّ الأزمة ستطول"، و"عندما تقع الواقعة (أي الحرب الكبرى)، نغادر البلدة"، على حدّ تعبيرهم.


قدرة البلديات

يؤكد منصور زين الدين، وهو معنيّ في ملف النزوح في صفد البطيخ، أنّ العدد وصل إلى 55 عائلة حتى الآن في البلدة. يؤكد زين الدين أنّ البلدية عمّمت أيضاً على أصحاب المباني وأهالي البلدة المساعدة قدر المستطاع، و"منهم من استقبل عائلة مع عائلته في بيته".

تواجه صفد البطيخ صعوبات عدّة، أوّلها تأمين الحاجيات من فراش وبطانيات وتغذية، لأنّ النازحين خرجوا من بيوتهم من دون أن ينقلوا أي شيء معهم. "قدرة البلدية ضعيفة، ليس لدينا إمكانات كافية، ولكن نحاول التواصل مع الجمعيات، وحتى الآن بدأت جمعية مالطا والكتيبة النرويجية في الجنوب بالاستجابة"، يقول زين الدين. ويؤكد أنّ ظروف أهالي صفد البطيخ لا تختلف مع النازحين سوى بأنّهم لا يزالون يقطنون في بيوتهم، ولكنهم فقدوا عملهم.

ويشير زين الدين إلى أنّ البلدة استقبلت أيضاً لاجئين سوريين نزحوا من القرى التي تتعرض للقصف. يناشد زين الدين كل من يستطيع تقديم أي عون للعائلات النازحة، في ظل الوضع العصيب، "النازح يستفيد من أي شيء، من الحذاء للطربوش". أمّا قرية تبنين، التي تعيش الظروف نفسها، فوصل عدد العائلات النازحة إليها إلى حوالى الستّين.

وحسب مصادر من اتّحاد بلديات قضاء بنت جبيل، وصل عدد العائلات النازحة من قراه إلى 4421 عائلة، بينما بلغ عدد الذين نزحوا من القضاء إلى داخله (أي ضمن نطاقه) إلى نحو 400 عائلة حتى الآن.

يظهر المشهد اليوم مدى تكافل الجنوبيين مع بعضهم البعض. وبينما تتّجه الأنظار نحو الجبهة العسكرية القائمة حالياً، ينتظر النازحون والسكّان اهتماماً من السلطات المحلية والمعنيّين. وما يبدو واضحاً أنّ القدرة الاستيعابية للبلديات ضعيفة، وقدرة النازحين على الاستجابة للأزمة غير كافية، فهم ينتظرون "الفرج" ويشاهدون بلداتهم التي تُقصف.

تعليقات: