هدف المصارف هو حماية ثروات أصحابها فقط (الأرشيف)
رغم انشغال الغالبيّة الساحقة من اللبنانيين بأحوال التصعيد العسكري الميداني جنوبًا، بدأ منذ فترة "تسخين" الجبهة المتصلة بعمليّة توزيع الخسائر المصرفيّة، وتحديدًا بما يتعلّق بمسار إعادة هيكلة القطاع المصرفي. كعادتها، وتمامًا كما فعلت على مرّ الأربع السنوات الماضية، كانت المصارف -مع اللوبي الذي يدور في فلكها- الأسرع في استباق الأحداث، والتحضير للمواجهة للمقبلة. وهذه المرّة، بات على المصارف التحضير للمواجهة على جبهتين في الوقت ذاته: أولًا على جبهة مصرف لبنان، الذي يُعد العدّة لمسار توحيد أسعار الصرف، وهو مسار يتصل بمسألة كشف الخسائر المصرفيّة في الميزانيّات. وثانيًا على جبهة مجلس الوزراء، الذي تلقّى مؤخّرًا مشروع مرسوم قانون إعادة هيكلة القطاع، من نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي.
العلاقة بين الجبهتين واضحة جدًا. فتوحيد أسعار الصرف يعني كشف الخسائر، وقانون إعادة الهيكلة يعني تحديد أطر التعامل مع المصارف بعد كشف الخسائر، ومنها أُطر تصفية أو دمج المصارف غير القادرة على إعادة الرسملة. وبين المسارين، ثمّة المسار الثالث المغيّب والضائع بين مجلسي النوّاب والوزراء، وهو مسار مشروع قانون إعادة الانتظام للقطاع المالي، الذي يفترض أن يحدد كيفيّة توزيع الخسائر محاسبيًا، بعد كشفها، وقبل التعامل مع المصارف المتعثّرة. كما هو واضح، من الطبيعي أن تتوقّع المصارف اقتراب موعد تحريك ملف المسار الثالث، بعدما تحرّكت اليوم جبهتي إعادة الهيكلة وتوحيد أسعار الصرف.
توحيد أسعار الصرف
في الوقت الراهن، يراهن مصرف لبنان على التقدّم خطوة نحو الأمام في مسألة توحيد أسعار الصرف، من خلال اعتماد سعر صرف جديد وواقعي للتصريح عن الميزانيّات المصرفيّة، وهو ما سيشمل ميزانيّات المصارف التجاريّة ومصرف لبنان معًا. وحسب مصادر مصرفيّة، يخوض مصرف لبنان حاليًا مفاوضات مع جمعيّة المصارف، بهدف التوصّل إلى اتفاق لتطبيق هذه الخطوة بحلول مطلع العام المقبل.
ويرى مصرف لبنان أنّ الوقت بات مناسبًا للقيام بهذه الخطوة من ناحيتين: أولًا نجاح السلطة النقديّة في تحقيق استقرار نقدي على مرّ الأشهر الماضية، وهو ما يتيح اعتماد سعر الصرف المستقر كأساس واقعي لمسار توحيد أسعار الصرف. وثانيًا، اقتراب المصرف من لحظة إطلاق المنصّة الجديدة، التي ستحل مكان منصّة صيرفة، وهو ما سيوفّر مرجعيّة يمكن اعتمادها لتحديد سعر الصرف الموحّد الجديد. مع الإشارة إلى أنّ المصارف ومصرف لبنان اعتمدا في السابق سعر الصرف الرسمي القديم، أي 1507.5 ليرة للدولار للتصريح عن الميزانيّات، قبل الانتقال لاعتماد سعر صرف 15 ألف ليرة للدولار من شهر شباط الماضي، بينما يُفترض أن يتم اعتماد سعر "واقعي" و"موحّد" ابتداءً من العام المقبل حسب المفاوضات الراهنة.
التصريح عن الميزانيّات بسعر صرف جديد، واقعي ومرتفع نسبة لسعر الصرف المعتمد حاليًا، سيعني تقويم الإلتزامات مقابل الموجودات بقيمتها الفعليّة، عند احتسابها بالليرة اللبنانيّة، بخلاف ما يجري حاليًا عند اعتماد سعر صرف لا تتجاوز قيمته 17% من سعر الصرف الحقيقي في السوق. وهذا الأمر، سيعني كشف الفارق الموجود بين الإلتزامات والموجودات بالعملة الصعبة، والذي يمثّل فعليًّا الجزء الأهم من الخسائر المصرفيّة المتراكمة. أمّا الموجودات والإلتزامات بالليرة اللبنانيّة، فلا يُفترض أن تتأثّر بهذا النقاش، في حين أنّ مصرف لبنان يملك أساسًا قدرة خلق النقد بهذه العملة.
تتوزّع الخسائر بين مصرف لبنان والمصارف على النحو التالي، حسب ما ذُكر في آخر الخطط الحكوميّة: 60 مليار دولار هي الفجوة الموجودة في ميزانيّة مصرف لبنان، و13 مليار دولار هي الفجوة المتراكمة في ميزانيّات المصارف التجاريّة وحدها (وهذا الرقم بحاجة لتدقيق جدّي لاحقًا).
المفاوضات مع مصرف لبنان
بالنسبة إلى مصرف لبنان، لن يمثّل تغيير سعر الصرف المعتمد لإعداد الميزانيّة إشكاليّة كبيرة. إذ أنّ المصرف عمد أساسًا إلى فتح حسابين منفصلين في خانة الموجود، لجمع الخسائر وقيدها كإلتزامات على الحكومة اللبنانيّة (جرى ذلك قبل مغادرة سلامة لمنصبه، وما زالت الخطوة محل جدل قانوني لم يُحسم بعد). أمّا بالنسبة للمصارف التجاريّة، فالكشف عن الخسائر، والتصريح عنها في الميزانيّة، سيعني عمليًا محو بعض الرساميل، أي ملكيّة المساهمين للمصرف، وهو ما سيفرض على كل مساهم إعادة رسملة المصرف للحفاظ على هذه الملكيّة. ولهذا السبب، سيكون اعتماد سعر الصرف الواقعي الجديد نقطة تحوّل بالنسبة للقطاع المصرفي، وحقوق المساهمين فيه.
لهذا السبب، يجري التفاوض حاليًا بين المصارف التجاريّة ومصرف لبنان، بخصوص الفترة الانتقاليّة التي ستلي اعتماد سعر الصرف الجديد. وأهم ما يجري التفاوض بشأنه، هو المدّة التي سيمنحها مصرف لبنان للمصارف لتقوم بعمليّة إعادة الرسملة، وتغطية مراكز القطع السلبيّة، أي الفارق بين إلتزاماتها وموجوداتها بالعملة الصعبة. كما يجري التفاوض على كيفيّة إعادة الرسملة، ومصدر الرساميل الجديدة. وهذه الفترة الانتقاليّة، ستنظمها تعاميم المصرف المركزي، التي ستكتفي بمعالجة أزمة مراكز القطع السلبيّة في ميزانيّات المصارف وحدها، على أن تحدد خطّة التعافي المالي مآل الخسائر الكبيرة المتراكمة في ميزانيّة مصرف لبنان.
بصورة أوضح، ما سنترقّبه من هذه التعاميم، ومن مسار توحيد سعر الصرف بشكل عام، هو الكشف أولًا عن الفجوة الموجودة في ميزانيّات المصارف ومصرف لبنان، بعد تنظيم الميزانيّات بحسب سعر الصرف الموحّد. إلا أنّ التعاميم لن تمثّل حلًا شاملًا، لكونها لن تحدد مصير خسائر المصرف المركزي (وهي بقيمة 60 مليار دولار)، بل ستحدد فقط آليّة ردم فجوة المصارف التجاريّة (اي الـ13 مليار دولار).
قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي
في مطلع الشهر الحالي، تم إنجاز مسودّة مرسوم مشروع قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي، بعد أخذ ورد بين فريق العمل الحكومي ولجنة الرقابة في مصرف لبنان، وفي ضوء ملاحظات صندوق النقد الدولي. وفي وقت لاحق، أحال نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي مسودّة مرسوم مشروع القانون إلى الأمانة العامّة لمجلس الوزراء، لإدراجه على جدول أعمال المجلس "في أقرب فرصة ممكنة"، كما طلب الشامي.
المسودّة، راعت في بعض تفاصيلها بعض الخطوط الحمر التي تصر عليها المصارف، مثل ترك مسألة تقييم الموجودات المصرفيّة لهيئات تعيّنها المصارف نفسها، بدل ترك المسألة للجنة الرقابة على المصارف، كما ينص قانون النقد والتسليف. وفي الهيئة المصرفيّة العليا، التي ستنظر في مصير المصارف خلال عمليّة إعادة الهيكلة، تمّت إضافة عضوين يمثلان لجنة الرقابة على المصارف ومؤسسة ضمان الودائع، مقابل إخراج مدير عام وزارة الماليّة من الهيئة. مع العلم أن المصارف نفسها تملك نصف أسهم مؤسسة ضمان الودائع، فيما تملك المؤسسة وجمعيّة المصارف معًا صوتين داخل لجنة الرقابة على المصارف، ما يجعل هذه التعديلات الحسّاسة في صالح المصارف.
ومع ذلك، بدأ لوبي المصارف يعد العدّة لمواجهة مسودّة مرسوم مشروع القانون داخل الحكومة أولًا، وفي مجلس النوّاب لاحقًا إذا تم إقرار المسودّة في الحكومة. ما تتحفّظ عليه المصارف في المسودّة هو إمكانيّة الحجز على ثروات المساهمين فيها وأعضاء مجلس الإدارة وكبار المديرين والمفوّضين بالتوقيع ومفوضي الرقابة، إذا فشل مصرف ما في عمليّة إعادة هيكلته. كما ترفض المصارف عدم تطرّق المسودّة إلى "مسؤوليّة الدولة" في عمليّة إعادة الهيكلة، أي تحميل المال العام كلفة إعادة رسملة القطاع المصرفي، كما طالبت جمعيّة المصارف منذ بدء الأزمة.
أخيرًا، يبدو من الواضح أنّ تحفّظات لوبي المصارف لا تقتصر على آليّات اتخاذ القرار المنصوص عنها في المسودّة، بل على فكرة وضع إجراءات قسريّة قاسية تفرض عمليّة إعادة الهيكة، أي على جوهر مشروع القانون نفسه. فبعض النقاشات التي جرت مؤخّرًا أظهرت أن المطلوب بالنسبة للمصارف هو التركيز على فكرة تحميل الخسائر لصندوق استرداد الودائع، مع السعي لربط الصندوق بالميزانيّة العامّة أو أصول الدولة، من دون الخوض كثيرًا في مسؤوليّة المصارف نفسها في معالجة الخسائر. بهذا الشكل، يتطابق هدف المعركة هنا مع هدف المفاوضات مع مصرف لبنان بخصوص توحيد أسعار الصرف، والمتمثّل في حماية ثروات أصحاب المصارف.
تعليقات: