حددت المقاومة الفلسطينية بشكل مدروس أماكن معينة لاستهدافها (Getty)
الدبابة ميركافا "مارك 4" (Merkava Mk 4) التي يحتفي بها الجيش الإسرائيلي كواحدة من الأفضل عالمياً في مجال حماية طواقمها، والتي تتميز عن الدبابات الأخرى بعدة خصائص جوهرية، تتعرض لضربات موجعة في أزقة غزة، حيث تواجه أسلحة بسيطة ورخيصة تتحدى ما تم التباهي به من تكنولوجيا وأنظمة حماية وقوة نارية. فهل هي حقاً تؤمن حماية مطلقة لمن بداخلها؟ وهل تستحق مكانتها بين الكبار مثل "أبرامز" الأميركية و"T-90" الروسية؟
فيما يلي، نستعرض مراحل تطور هذه الدبابة وسنحاول تقديم تحليل علمي حول إمكاناتها، بعيداً على التوصيفات الساخرة (على لذتها) بأنها تتحول إلى خردة حديدية، ولكن في المقابل نتحرر من أسطورة التفوق التي حيكت حول عربة القتل هذه.
نشوء ميركافا
في أواخر الستينيات، تعاون الجيش الإسرائيلي مع البريطانيين في تصميم بعض أجزاء الدبابة شيفتين (Chieftain) التي دخلت الخدمة في الجيش البريطاني عام 1965. تم تسليم نموذجين من الدبابة لإسرائيل ضمن تجربة استمرت أربع سنوات. لكن في النهاية تم اتخاذ قرار بعدم بيع الدبابة للإسرائيليين، لأن هذه الدبابات كانت قد بيعت بالفعل لبعض الدول العربية، مما دفع الإسرائيليين بعد حرب أكتوبر 1973 لبناء أول ميركافا على هيكل نموذج "شيفتين" وتم استعارة نموذج قاعدة العجلات ونظام الدفع المجنزر من دبابة سينتيريون (Centurion) البريطانية أيضاً.
قاد هذه المهمة "إسرائيل تال" وهو قائد لواء الدبابات في معركة السويس، الذي أعاد تنشيط الخطة بإنتاج دبابة إسرائيلية، مستفيداً من المعلومات التي تعلمها من حرب أكتوبر 1973 عندما تكبدت إسرائيل خسائر فادحة من المدرعات على يد المقاومة الشعبية المصرية والجيش المصري. وفي عام 1979 دخلت ميركافا "مارك 1" الخدمة، وكانت أول مشاركة قتالية لها في اجتياح لبنان عام 1982 حيث شاركت بحوالى 180 دبابة من هذا الطراز.
تطور ميركافا ومحورية حماية الطاقم
القوة النارية لدبابة ميركافا "مارك 1" تضمنت مدفعاً من عيار 105 ملم، ورشاشين من عيار 7.62 ملم، ومدفع هاون 60 ملم، وفي عام 1983 دخلت ميركافا "مارك 2" الخدمة بالترسانة النارية نفسها مع تعديل بسيط فيما يخص مدفع الهاون، حيث لم يعد مضطر مشغل هذا المدفع لتشغيله يدوياً من خارج الدبابة. كانت تلك إحدى محاولات حماية الطاقم في الأماكن الحضرية مثل بيروت والضفة الغربية. لكن هذا الهوس بأمن طاقم الدبابة لم يبدأ في شوارع بيروت بل في صحارى سيناء.
لقد بنيت ميركافا على رؤية مستخلصة من حرب سابقة، وهي أن وضع المحرك ونظام التعليق في الأمام يضمن حماية أكبر للطاقم، كما سمح ذلك بجلوس قائد الدبابة مع بقية الطاقم وإمكانية مشاركته بإطلاق النار إلى جانب القيادة. سمحت المساحة التي وفرها نقل المحرك إلى الأمام بزيادة أعضاء الطاقم الذي يمكن أن يصل إلى ستة أفراد، كذلك تخزين المزيد من الذخائر والوقود.
بالعودة إلى ميركافا "مارك 3" التي ما زالت حتى اليوم تستأثر بالعدد الأكبر في ترسانة الجيش الإسرائيلي، فقد تم انتاجها من عام 1989 حتى عام 2003، هذه الدبابة تم تزويدها بمدفع من عيار 120 ملم ومحرك ديزل بقوة 1200 حصان، ومنصة رشاش من طراز رافائيل، وعدة أنظمة حماية أدخلت إليها في منتصف التسعينات، لا سيما الدروع القابلة للاستبدال، وتحسين نظام الدفع المجنزر، وكذلك مستشعرات تعمل بالأشعة ما دون الحمراء، ونظام تبريد للقمرة.
لقد تكبدت ميركافا "مارك 3" خسائر كبيرة في حرب تموز 2006 لا سيما في منطقة وادي الحجير، وقد اصطلح على تسمية هذه الموقعة لبنانياً بـ"مجزرة الميركافا".
ترسانة "مارك 4" ونظام Trophy
السلاح الرئيسي في ميركافا "مارك 4" التي دخلت الخدمة عام 2003، هو مدفع MG253 عيار 120 ملم وتحمل الدبابة 48 قذيفة من هذا العيار، وتستخدم نظام تلقين أوتوماتيكي يحتوي على 10 قذائف جاهزة للاستخدام. يمكن للمدفع إطلاق الذخائر المعيارية لحلف شمال الأطلسي (فرنسية وألمانية وأميركية) بما في ذلك القذائف التقليدية. وكذلك إطلاق صواريخ مخترقة للتحصينات أو للدروع ذات الزعانف، التي يتم توجيهها بالليزر، ويصل مداها إلى 3500 متر. وتضم أيضاً رشاشين MAG عيار 7.62 ورشاش ثقيل M2HB عيار 12.7. كما يمكن إطلاق قاذفة هاون عيار 60 ملم من داخل البرج.
إلى جانب هذه القوة النارية الهائلة التي لا تتغير كثيراً مع أجيال ميركافا، ما يميز "مارك 4" عن سابقاتها هو ما يعرف بنظام Trophy active protection system أو نظام الحماية النشطة للمركبات المدرعة. يهدف هذا النظام إلى حماية المركبات المدرعة من الصواريخ الموجهة والقذائف الصاروخية المضادة للدبابات، حيث يقوم برصد هذه التهديدات وإرسال مقذوفات متفجرة تعترضها قبل الوصول إلى الدبابة بأمتار قليلة.
ما كان ملفتاً في هجوم 7 تشرين الأول الذي شنته كتائب القسام، مشهد تلك الميركافا "مارك 4" قرب السياج في منطقة "ناحل عوز" والتي تعرضت لهجوم صاروخي. وقد قتل أحد أفراد طاقمها، من دون أن يفتح غطاء نظام Trophy. مما يشير بأن النظام لم يكن مشغلاً حينها. هناك فيديو واحد فقط من ذلك اليوم يُظهر نظام Trophy وهو يعمل على ملاقاة وتفجير صاروخ موجّه، يرجح أنه من طراز كورنيت الروسي الصنع.
الاختلاف لا يمنحك قوة سحرية
لا شك أن غنيمة "ناحل عوز" في 7 تشرين الأول كانت مهمة جداً لناحية تعرف مقاتلي القسام على المزيد من الأماكن الحساسة والقاتلة في الميركافا "مارك 4" كما تبين لاحقاً خلال الاجتياح البري لقطاع غزة.
لقد حددت المقاومة الفلسطينية بشكل مدروس أماكن معينة لاستهدافها في هيكل الميركافا. وقد ظهر ذلك في ورقة تعليمات مع رسم الدبابة وقد كتبت بالعربية، قيل أنها وجدت في ساحة المعركة مع أحد المقاتلين، ويمكن تلخيصها بالتالي:
- مخازن الذخيرة الموزعة على الجانبين وفي الخلف.
- الباب الخلفي.
- المساحة بين البرج والهيكل.
- خزانات الوقود، واحد في الأمام واثنان في الخلف.
- المنطقة الأمامية السفلية وهي الأقل تدريعاً في الدبابة، ويمكن بإصابتها أن تعطل المحرك.
يبدو أن نظام Trophy لا يعمل في المواجهات القريبة كما هو الحال في غزة. وقد شاهد العالم كيف يتم استهداف الميركافا بطرق مختلفة من الصواريخ الموجهة إلى الألغام الأرضية. لكن النجاح الأكبر كان لقذائف "التاندوم" الترادفية والتي تدعى النسخة المحلية منها بالياسين 105، وكذلك العبوات المرتجلة IED التي تفعّل باليد بعد وضعها بين البرج والهيكل، وتسميها القسام "عبوات العمل الفدائي".
ولكي نكون علميين هنا، لا يمكن الجزم فقط من فيديوهات القسام الخاطفة بمدى التأثير الذي تتركه القذائف الصاروخية "آر بي جي" (ياسين)، لكن هناك تقديرات بأن إسرائيل خسرت ما يقرب من 100 آلية مدرعة (يرجح أن يكون نصفها من دبابات الميركافا) في الشهر الأول من الاجتياح البري لقطاع غزة، وهو رقم كبير بالتأكيد.
تبدو الميركافا بعد هذا المسار الطويل من التطوير وكأنها بنيت على خطأ منهجي أساسي (Original sin) وهو وضع المحرك في الأمام بخلاف كل دبابات العالم، وعمل مهندسيها طوال الوقت لتفادي المشاكل الناتجة عن هذا الاختلاف الجوهري، وقاموا بتعزيز قدراتها كمدرعة لقتال الأفراد في الضفة وغزة ولبنان، بعدما تيقنت إسرائيل منذ زمن بأنها لن تواجه جيوشاً نظامية. فهي دبابة ثقيلة وغير مستقرة بسبب توزيع الوزن، ولديها ضعف في المناورة أثناء القيادة بسبب نظام التعليق الأمامي، كما أنها غير اقتصادية في استهلاك الوقود بسبب دفعها الأمامي. وزيادة وزنها جعلها تقلل من التدريع الكلاسيكي وتعتمد كلياً على الانظمة الالكترونية، التي لا تعمل بدورها إلا في حال تشغيل الدبابة. أضف أن كثرة تسليحها ومخازن الذخيرة المنتشرة في هيكلها يجعلها تنفجر بشكل "بديع" عند إصابتها.
نعم هي دبابة مختلفة لكن هناك مثل ألفته للتو: "الاختلاف لا يمنحك قوة سحرية".
تعليقات: