في أسواق صيدا التجارية
صيدا ـــ
هي غزوة من نوع آخر مناسبتها الشهر الفضيل أيضاً. حيث ينتشر عشرات المتسوّلين في طرق مدينة صيدا وشوارعها، وعلى أبواب مساجدها خصوصاً، في سعيهم، هم بدورهم، إلى الرزق، وعيدية من نوع آخر، دافع المحسن إليها يتراوح بين الخوف على الأحبة والرغبة في دفع البلاء عنهم، وبين مجرد المشاركة في «فك ضيق» متسولين، بغض النظر عن ادعاءات بعضهم بأنهم»عزيز قوم ذل»، استسقاءً للحسنة.
فقد ارتفعت نسبة هؤلاء خلال هذا الشهر بنسبة 150 بالمئة، وفقاً لتقديرات جمعيات اجتماعية عدة في المدينة. ومرد ذلك، حسب هؤلاء، إلى شهر رمضان الذي يمثّل أرضية خصبة، وتبريراً كافياً للتسوّل في رمضان. فجأة تكاثر المتسوّلون وكأنهم الفطر بعد الشتاء، «ما بتخلص من واحد حتى تصطادك الثانية»، تقول حنان الجردلي التي ظنت أنها قامت بما عليها بإحسانها إلى إحدى المتسولات، وإذ بها تكتشف أنها متبوعة بعشرات الأخريات اللواتي طمعن بكرمها.
لكن عالم المتسوّلين هو أبعد ما يكون عن العشوائية التي يوحي بها انتشارهم. فهناك تقاسم لمناطق النفوذ. وعادة ما يحدد المتسولون نقاط عملهم، بالنظر إلى استراتيجيتها، وخاصة في السوق التجاري. فيتوزعون النفوذ في ما بينهم بحيث لا يعتدي أي منهم على منطقة الآخر التي بالكاد تفصلها عن بعضها مجرد أمتار ليس إلا.
«الله يحفظ أهلك» أو «الله يبعتلك عريس» أو حتى «الله يخليلك هالصبي»، عبارات رائجة. أما أصحاب الموهبة، فيرمون أدعية تبعاً لضرورات العمل، تراعي الحالات الخاصة: فالمرأة الحامل يدعى لها بولادة سهلة وإنجاب صبي، والرجل المتجهم يدعى له بفتح أبواب الرزق في وجهه، والمسن بطول العمر والصحة الخ.. لكن اللافت هذه السنة، إضافة إلى ازدياد عدد «العاملين» في التسوّل، ازدياد «حسهم» الطائفي والسياسي، أو بالأحرى تمرّس فراستهم في وجوه الناس من أجل أن يحزروا «الوتر الحساس» الذي سيضربون عليه من أجل الفوز بالصدقة. فلقد سجلت الحساسيات السياسية ـــ الطائفية دخولها إلى قاموس المتسولين. هكذا، يتمعّن المتسولون اليوم في وجوه «الضحايا» وأشكالهم، متسقطين علامات فارقة طائفية أو سياسية أو أيديولوجية. فعلى سبيل المثال تترحم المتسولة على الرئيس رفيق الحريري عند ملاحظتها أن «الهدف» يقود سيارة وضعت على زجاجها صورة للرئيس الراحل، بينما يطلب آخر نقوداً «عن روح أبي عبد الله الحسين»، متى لاحظ التشادور الأسود الذي يلف السيدة المستعطاة، والذي يدل بوضوح لا لبس فيه على انتمائها المذهبي. عدة شغل لازمة يجيد استخدامها المتسولون. لكن بعضهم لا يكتفي بذلك، بل يبدع طرقاً جديدة. ففي مكان قريب من ساحة النجمة وسط مدينة صيدا، اكتشف أخيراً أمر متسولة في العقد الخامس من العمر تصطاد المحسنين عبر ادعائها أنها من منطقة خارج المدينة، و«انقطعت» وبحاجة إلى خمسة آلاف ليرة كحد أدنى «لأنني ضيعت جزداني» أو لأنه سرق منها وتريد العودة إلى الضيعة.
ويلاحظ كثرة المتسولين ممن يعانون إعاقات دائمة. وباعتقاد الناشط الاجتماعي علي المكاوي أن الأمر مرده إلى غياب فعالية مؤسسات الدولة الرعائية والاجتماعية والصحية وعدم تشكيلها مظلة أمان اجتماعي لهؤلاء المعوقين. لكن هل هذا الأمر وحده يحدد المتسولين الموجودين في الشارع؟ الأرجح أن الأمر أعقد من ذلك. فالكثيرون يعلمون أن المافيات المنظمة لعمل أهل مهنة التسوّل، تعطب أحياناً عن قصد، طفلاً وليداً من أولادهم من أجل أن يستخدموه في الاستعطاء والاستجداء. وكثيراً ما نشاهد أمهات يفرشن أجساد أولاد أمامهن، أو يدفعن عربة مشلول أو معوق مستعطيات الناس.
تعليقات: