الحرب في غزّة: شهادة الجرّاح غسان أبو ستّة الصادمة

أبو ستة: إسرائيل أطاحت بكل الخطوط الحمراء التّي عهدناها في باقي الحروب (Getty)
أبو ستة: إسرائيل أطاحت بكل الخطوط الحمراء التّي عهدناها في باقي الحروب (Getty)


مهما حاولنا جاهدين، الإحاطة بلاغيًّا بوطأة المجزرة الحاصلة في قطاع غزّة المُحاصر، فإن عطبًا بالغًا سيُصيب اللّغة مهما كانت مُتمكّنةً من وصف معالم الخراب، من التّشوه الذي طرأ على الذاكرة الإنسانيّة، والألم المُمضّ الذي يعتصر قلب العالم، والبلوى الدمويّة التّي ينسحق تحتها الآلاف المؤلفة من المحاصرين في القطاع، مُهجري الماضي، ضحايا اليوم. مهما حاولنا تفسير المجزرة، مهما حاولنا وصف الغلواء الإجراميّة المعتملة، ونقلها وأرشفتها، وذمّ الإسرائيليّ -الشغوف والمتمرس بالقتل والإيذاء تشفيًّا، غير الآبه بكشف دواخله المُعتلّة بنزعةٍ شيطانيّة لمحو كل ما هو فلسطينيّ- ستكون الكلمات عاطفيّةً ومُكرّرة حدّ الابتذال. لتأتي لاحقًا ومن قلب المجزرة، "شهادات" الناجين مؤقتًا، كصفعةٍ بوجه لغتنا الهزيلة.

وهذا الحقيقة هي واحدةٌ من الحقائق التّي لا يُمكن تناسيها، لدى الاستماع للجراح الفلسطينيّ -البريطاني غسان أبو ستّة، شارحًا يومياته كطبيب مُتطوع في قطاع غزّة، ذكرياته من تحت القصف، وداخل أروقة المستشفيات التّي عمل فيها لنجدّة المصابين، وكإنسانٍ شاهد على المذبحة التّي حلّت بأبناء جلدته.


ندوة في الجامعة الأميركيّة لأبو ستّة

والتّجربة الغزّاويّة التّي عايشها بالتّفاصيل الدقيقة والمعاينات الحسيّة المُفجعّة، هي ما تمّ التّطرق إليه في الندوة التّي عُقدت في الجامعة الأميركيّة في بيروت، مساء الجمعة 8 كانون الأول الجاري، برعاية كل من المركز العربيّ لدراسات للأبحاث ودراسة السّياسات، ومركز الدراسات الفلسطينيّة ومعهد الصحّة العالميّة في الجامعة الأميركيّة (GHI)، تحت عنوان "جروح الحرب: تجربة غزّة بعيون الدكتور غسان أبو ستّة".

وقد حضر أبو ستّة، بوصفه واحداً من الطواقم الطبيّة التّي شاركت في الصفوف الأماميّة للإغاثة في حرب غزّة الأخيرة، مقاربًا بين تجربته في الحرب هذه، وسائر الحروب الأربعة التّي عاشها في غزّة، فضلًا عن تلبيته للنداء الإنسانيّ في اليمن وسوريا والعراق وجنوب لبنان. راويًا التّجربة الإنسانيّة ومستفيضًا بالشرح الطبّيّ للوضع الحاليّ في المشافي ودور الإيواء، والمشهديّة العامة المُحيطة بالحرب هذه. وأبو ستّة، طبيب فلسطيني، أستاذ وجراح تجميليّ وأحد روّاد الطبّ التّرميميّ. يعمل منذ 2011 في مشفى الجامعة AUH، وأسهم عام 2015، في تأسيس برنامج طبّ النزاعات في معهد الصحّة في بيروت وأصبح لاحقًا مديرًا له.

وقد استهلت الندوة (التّي عُقدت باللّغة الإنجليزيّة) بكلمة لكل من الدكتور فضلو خوري، رئيس الجامعة الأميركيّة في بيروت، تلاه كلمة موجزة للمدير المؤسّس لمعهد الصحّة، البروفيسور شادي صالح، ومن ثمّ تسلم أبو ستّة منصة الحديث.


ليست بحربٍ عاديّة

حاول أبو ستّة طيلة خطبته الفرديّة التّي سبقت حواره المُعمق مع الدكتورة مُنى الخالدي، ضبط انفعالاته، وتقرير ما يحصل بلغةٍ علميّة دقيقة، إلا أن التّوصيفات التّي أطلقها على ما شاهده، سرعان ما انفلتت من اللّغة الطبيّة. فالطبيب، الذي قرّر التّطوع للإغاثة الإنسانيّة بداية الحرب حيث قضى فيه 43 يوماً، بعدما حط بغزة في العاشر من تشرين الأول مع فريق منظمة "أطباء بلا حدود" (راجع "المدن")، حين وصل في تاريخ 9 تشرين الأوّل معبر رفح منطلقًا باتجاه غزّة، وصف ما حصل بكونه حرفيًّا يُمثل self-feeding catastrophe، أي أن الإسرائيليّ تعمّد جعل حربه على غزّة، كارثة موصولة تتناسل عنها باقي الكوارث.

مُعتقدًا أنها ليست بحربٍ عاديّة، وليست شبيهة بالحروب التّي سبقتها عام 2021 أو 2014 أو 2009، بل سمّاها بحرب "بيني مورس Benny Morris" المؤرخ الإسرائيليّ الذي اعتبر أن الخطأ والفرصة التّي أهدرتها إسرائيل كان بعدم طرد كافة الفلسطينيين عام 1948، لكن نتنياهو قرّر اليوم "تصحيح" هذا "الخطأ". ولن يتوقف الأمر على غزّة، بل سينتقل لاحقًا إلى الضفّة ومن ثمّ الجليل ولاحقًا لبنان.

استفاض الطبيب بشرح ما عايشه من المجازر التّي حلّت بمستشفى الأهليّ المعمدانيّ، حيث كانت تسود عقيدة أن المشفى بمأمن عن الأذى الإسرائيليّ، مع تهافت الجانب البريطاني بالتّأكيدات أن لا خطر سينال هذا المشفى الذي أسّسته بالمرتبة الأولى جمعيّة الكنيسة الإرساليّة التابعة لكنيسة إنجلترا، فيما تُديره الكنيسة الأسقفية الأنجليكانية في القدس. قائلًا من هنا بدا الأمر أن إسرائيل قد أطاحت بكل الخطوط الحمراء التّي عهدناها في باقي الحروب حول العالم، وتقصدت ذلك، متذرعةً بالسّرديّة ذاتها، التّي اعتبرت أن المستشفيات تخفي تحتها أنفاقًا للجناح العسكريّ لحركة حماس، كتائب القسام.

ومن ثمّ تحدث أكثر عن الجانب الطبّي والمحنة الوجوديّة التّي واجهتها الفرق الطبيّة في مستشفيي الشفاء والمعمدانيّ، حيث لجأوا للمياه المغليّة والخلّ لتعقيم الجروح، ومن ثمّ وبنفاذ كل مواد التّخدير (morphine, ketamine) وغيرها، تمّ الاضطرار لإجراء العمليات من دون التّخدير، وهذه العمليات التّي بدأت تصبح بدائيّةً يومًا بعد يوم، مع وضع الأولويّة للفرز الذي يعتمده أهالي الضحايا. وتحدث حول الآثار الوحشيّة للقصف على الفلسطينيين، حيث ترك القصف الصاروخيّ، خصوصاً الصواريخ من طراز هيلفاير التّي تنطلق من المسّيّرات، آثارًا مروعة على أجساد الجرحى، حيث تتسبب في تفتيتها كما لو كانت عرضة للمقصلة، نتيجة لشظايا الحديد التّي تحملها. وصولًا لآثار الفوسفور (المحرمّة دوليًّا) على الأجساد والجروح، وآلامها التّي تنخر العظام. وصولًا للمشاهد المرّوعة في مشفى الشفاء، حيث تمّ اقتحامه وتخريب مرافقه، بما في ذلك تقطيع أنابيب الأوكسجين في قسم الولادة، ومشاهدة المواليد الخُدج يموتون ببطء.


غزّة: الجريمة المنظمة

وعلى هذا النحو، تمّ الاخذ بالاعتبار الانتقال من شمال إلى جنوبيّ القطاع، حيث وصف الجراح المشهديّة وكأنها مُحاكاة لمشهد صيدا نفسه عام 1982، مستشهدًا بمحاكاة الرّسام الفلسطينيّ ناجي العليّ الفنيّة التأريخيّة له. وخصوصًا برؤيته أجساد الضحايا الذي خلفها الإسرائيليون خلفهم في الشوارع العموميّة عمداً بغية التّرهيب، وكأنهم يقولون "نحن هنا"، وتحدث عن الاعتقالات التّعسفيّة. لتُختتم الجلسة بحوار طبيّ معمق بينه وبين الخالدي، وتحدث فيه عن تدمير البنى التحتيّة الطبيّة، ومحاولة إسرائيل محو الحياة المدنيّة في غزّة. ولم يتوان عن تسميّة الحاصل والمستمر بالإبادة، مستشرفًا امتداده باتجاه كل الأراضي الفلسطينيّة المُحتلة ولبنان.

تعليقات: