في وقت تتجه دول العالم الى الاتكال أكثر على البطاقات المصرفية في تعاملاتها اليومية، يسير لبنان بعكس السير الدولي بسبب انهيار عملته الذي حوّل دورته الاقتصادية الى اقتصاد "الكاش"، وهو الذي كان قطاعه المصرفي طليعيا ومن أوائل مَن استخدم بطاقات الاعتماد والائتمان وأدخل الى اقتصاده تكنولوجيا الخدمات النقدية من بين معظم دول الاقليم. بَيد أن التحول الى التعامل المفرط بالنقدي ووصول التضخم الى مستويات غير مسبوقة، دفع مصرف لبنان والمعنيين بالشأنين الاقتصادي والمالي الى المسارعة الى اعتماد اجراءات مرحلية متعددة لشفط ما أمكن من السيولة المتعامَل بها لتحقيق هدفين: الاول ضبط التفلت بسعر الصرف وحماية ما تبقّى من قيمة مداخيل المواطنين، والثاني اعادة اطلاق عجلة الاقتصاد بعد تثبيت سعر الصرف وخلق فرص للنمو توقف تسارع السقوط، فكان قرار #وزارة المال استيفاء الرسوم والضرائب على بعض السلع المستوردة نقدا بنسبة 75%، بعدما كانت تتقاضاها عبر شيكات مصرفية، وأخيرا أصبحت 100% "كاش".
هذه القرارات شملت أيضا مستوردي المحروقات، خصوصا أن "الضريبة على القيمة المضافة التي تتوجب على المستهلك النهائي في ما يخص المحروقات الخاضعة لهذه الضريبة يتم تحصيلها نقدا بشكل حصري، واستكمالا للاجراءات المتخذة بغية تعزيز ادارة السيولة ودعم الاستقرار المالي والنقدي بطريقة مستدامة، تعدل نسبة الاستيفاء النقدي للضريبة على القيمة المضافة المتعلقة بالتصاريح الفصلية التي تحصلها مديرية المالية العامة من مستوردي المحروقات عن مبيعاتهم الخاضعة للضريبة على القيمة المضافة، لتصبح 100% نقدا بالليرة اللبنانية".
وبناء على قرار وزارة المال، قرر أصحاب محطات المحروقات التوقف عن قبول بطاقات الـ Visa المصرفية بحجة عدم قدرتهم على سحب الأموال من المصارف ودفع الضرائب والرسوم المتوجبة عليهم.
وقال ممثل موزعي المحروقات في لبنان فادي أبو شقرا لـ"النهار": "بما أنه لم يعد في امكان اصحاب المحطات سحب الأموال التي نتقاضاها من الزبائن من المصارف لدفعها إلى الدولة اللبنانية، فإننا مضطرون، وبكل أسف، الى عدم قبول استيفاء الأموال عبر البطاقات المصرفية".
وجاء قرار وزارة المال استيفاء الضرائب والرسوم 100% "كاش" من محطات البنزين ومستوردي المحروقات بغية زيادة ايراداتها "كاش" وتاليا شفط السيولة من السوق قدر الامكان للمحافظة على منع زيادة التضخم واستقرار سعر الصرف. وتؤكد مصادر متابعة أن "مصرف لبنان كان يلجأ الى امتصاص السيولة من خلال صيرفة، فيما حاليا ثمة وسيلة وحيدة هي ايرادات الخزينة الكاش، علما أن وزارة المال اتخذت القرار بالتنسيق مع مصرف لبنان".
وتوضح المصادر ان "قرار وزارة المال لن يشمل قطاع السوبرماركت والمواد الغذائية الذي ستستمر باستيفاء الضرائب ورسوم الـ TVA منه بشكل غير نقدي، وتاليا سيستمر هذا القطاع بقبول البطاقات المصرفية".
الايرادات كافية للزيادات لموظفي القطاع العام؟
اذا كان قرار استيفاء الرسوم والضرائب "كاش" هدفه امتصاص السيولة من السوق، فإن التخوف من أن تؤدي الزيادات والعطاءات المرتقبة لموظفي الادارة العامة والعسكريين الى عرقلة السياسة التي تتبعها وزارة المال بالتنسيق مع مصرف لبنان لضبط سعر الصرف، اللهم إلا اذا استمر التعاون والتنسيق بين مختلف مكونات السلطتين السياسية والنقدية، واستمر مصرف لبنان بدفع جميع الرواتب والاجور مع متمماتها بالدولار على سعر صيرفة للقطاع العام.
إذ تشير مصادر متابعة الى أن ارتفاع نسبة ايرادات الخزينة النقدية وغير النقدية عموما حفّز الدولة على زيادة الرواتب وبدل الانتاج اليومي للموظفين. فالايرادات وإن كانت قد تراجعت في تشرين الثاني نحو 40% مقارنة مع تشرين الاول لتصبح 18 الف مليار ليرة بعدما كانت قد وصلت الى 32 ألف مليار في الشهر السابق. وعزت التراجع الى أن المكلفين سددوا رسوم الـ TVA في آخر تشرين الاول عن فصل الصيف (3 أشهر)، لذا حققت ايرادات تشرين الاول ارقاما قياسية، عدا عن ان كميات الاستيراد انخفضت في تشرين الثاني نتيجة حرب غزة.
وليس خافيا ان إيرادات الدولة بالعملة الوطنية بدأت بالارتفاع منذ أيار الماضي عشرات الأضعاف مقارنة بأول السنة على خلفية ارتفاع الدولار الجمركي وبعض التدابير التي اتخذتها وزارة المال. وأكدت المصادر أن "التدابير التي اتخذها مصرف لبنان، اضافة الى الاجراءات التي اتخذتها وزارة المال، ساهما بانخفاض حجم الكتلة النقدية الى نحو 56 ألف مليار ليرة حاليا بعد انخفاضها نحو 8 آلاف مليار منذ نيسان الماضي، ما يقلص قدرة المضاربين على تحريك السوق، ويمنح مصرف لبنان الوقت لاستيعاب أي صدمات مستجدة".
هذه الايرادات في رأي البعض أكثر من كافية لتسديد مدفوعات الدولة وبينها الرواتب للموظفين والعسكريين والمتقاعدين، لكن الزيادات والعطاءات التي يطالب بها هؤلاء وهي محقة، يمكن ان تشكل خطرا على سعر صرف الدولار. لذا تلفت المصادر الى انه كان ثمة اجماع من الحكومة ومصرف لبنان على ان الاولوية هي للمحافظة على استقرار سعر الصرف، وكان التوافق على ان تعطى زيادات معقولة على نحو لا يؤثر على الاستقرار النقدي وتكون الخزينة قادرة على تحمّلها.
وكان اجتماع "اللجنة الوزارية المكلفة معالجة تداعيات الأزمة المالية على سير المرفق العام" الذي سبق لـ"النهار" ان ذكرت ما خلص اليه من زيادات وعطاءات للموظفين، قد أثار اعتراضات وتخوفا من تكرار مشهد سلسلة الرتب والرواتب السابقة، وما أدت اليه من نتائج سلبية، فرملت ما تم التوافق عليه واعادة النظر به. وفي السياق عُقد اجتماع أول من امس في السرايا بين رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وروابط المتقاعدين من العسكريين والاداريين والسفراء والاساتذة حضره المدير العام لوزارة المال جورج معراوي ومستشار رئيس الحكومة نقولا نحاس والمدير التنفيذي للعمليات وانظمة الدفع في مصرف لبنان مكرم بو نصار ورئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الاسمر. وتم التداول بموضوع الزيادات المقترحة للقطاع العام، وخلص الاجتماع الى التوافق على ضرورة اعطاء الزيادات والحوافز، ولكن ضمن امكانات الخزينة ومن دون المسّ بالاستقرار النقدي الذي هو اولوية وضرورة للجميع. كذلك، تم الاتفاق على تشكيل لجنة برئاسة الوزير السابق نقولا نحاس وتضم ممثلين عن روابط المتقاعدين وهدفها درس وضع المتقاعدين وإعداد اقتراحات سريعة بهذا الشأن.
وللتذكير، فقد أوصت اللجنة الوزارية الحكومة باعطاء زيادات للعسكريين عبارة عن 3 رواتب اضافية شهريا مع متمماتها لتصبح 9 رواتب بدلا من 6 حاليا، وللمتقاعدين (اداريين وعسكريين) راتبين اضافيين مع متمماتهما ليصبح مجموع رواتب المتقاعدين 8 رواتب بدلا من 6 رواتب حاليا. أما موظفو الادارات العامة، فأوصت بمنحهم مليونا ونصف مليون ليرة للفئة الادنى، ومليونين و400 ألف للفئة الاولى بدل انتاج يومي شرط الحضور اليومي للشهر بأكمله من دون اي غياب. وفي حال غياب يوم واحد من دون مبرر، لن يفيد عن الايام التي حضرها، علما ان البدل اليومي للادارة العامة يخضع للضريبة، وتاليا فإن معدل الزيادة الشهرية الصافية هو نحو 300 دولار، اسوة بالاساتذة في وزارة التربية الذين يحصلون على 300 دولار شهريا بدل انتاجية، وكذلك الامر بالنسبة الى اساتذة الجامعة اللبنانية والقضاة الذين يحصلون على مساعدة من صندوق التعاضد.
وعلمت "النهار" أنه كان ثمة امتعاض من المتقاعدين والعسكريين لعدم مساواتهم بموظفي الادارة، بَيد أن مصادر وزارية أكدت أن العسكريين يحصلون على 100 دولار شهريا من الجهات المانحة، عدا عن ان عدد المتقاعدين كبير جدا (نحو 130 الف متقاعد)، فيما عدد الموظفين الاداريين لا يتجاوز الـ 10 آلاف موظف، وثمة تحفيز لكي يحضروا يوميا الى عملهم بغية زيادة الايرادات للخزينة وتفعيل العمل في الوزارات وتحديدا في وزارة المال والدوائر العقارية.
وبالعودة الى الارقام التي حققتها الخزينة، فقد تخطت 22 ألف مليار ليرة لبنانية في ايلول يضاف إليها تحصيل إيرادات بأكثر من 44 مليون دولارFresh، فيما يتوقع أن تصل الإيرادات الفعلية خلال عام 2023 إلى نحو 240 تريليون ليرة أي نحو 2.7 مليار دولار. واللافت أن أكثر من نصف الإيرادات بدأت الدولة بتحصيلها منذ فترة، نقدا – "كاش" (بمعدل نحو 13 تريليونا إيرادات "كاش" شهريا، أي ما يوازي حوالى 145 مليون دولار على سعر السوق)، كما يتوقع أن ترتفع نسبة الإيرادات أكثر مع عودة الموظفين إلى مزاولة أعمالهم بصورة معتادة وإعادة فتح الدوائر العقارية، خصوصا إذا اقرت العطاءات وبدل الانتاج الذي قد يحفزهم على الحضور يوميا.
وفي تفاصيل الأرقام، بلغت إيرادات الخزينة حوالى 190 ألف مليار ليرة من أول السنة حتى آخر تشرين الثاني الماضي، نصفها نقدي. أما إيرادات "الكاش" بالدولار في الفترة نفسها فبلغت أكثر من 260 مليون دولار، بمعدل نحو 25 مليون دولار "كاش" شهريا، معظمها من رسوم بطاقات السفر (رسوم المغادرة)، وبعض الرسوم من مرفأ بيروت.
"النهار"- سلوى بعلبكي
تعليقات: