تعيش زينب عثمان في مدينة بعلبك مع زوجها محمود حسن من التابعيّة المصرية وابنهما ميكال البالغ من العمر خمس سنوات. وبالرغم من أن ميكال وُلد في مصر، إلا أنه يعيش في لبنان ويحمل جيناته، لكنّه لا يحمل جنسيته، بل محروم منها بفعل القانون الذي يمنع المرأة اللبنانيّة المتزوجة من أجنبيّ من إعطاء جنسيّتها لأولادها، وهذا يُعتبر أحد أبرز وجوه الظلم الذي تتعرض له المرأة اللبنانيّة.
لا يفرّق الظلم اللاحق بالمرأة اللبنانيّة المتزوجة من أجنبيّ والمتمثّل بحرمانها من منح جنسيتها لأولادها، بين امرأة وأخرى مهما اختلفت منطقة تلك المرأة أو طائفتها، فالظلم اللاحق بالنساء اللبنانيّات ضحايا القانون، عابر للمناطق والطوائف، لكن تبقى منطقة بعلبك الهرمل الأكثر ظلمًا من غيرها، أوّلًا بسبب بعدها عن العاصمة، وثانيًا بسبب موقعها الجغرافي المتداخل مع سوريا، الأمر الذي يجعل عدد الزيجات المختلطة، مرتفعة عن باقي المناطق اللبنانية، وأيضًا التهميش بفعل التنميط الذي يلحق بتلك الزيجات، والنظرة المجتمعيّة لها.
هذا الأمر، يجعل نساء بعلبك- الهرمل في قلب المعاناة، إذ لا تقتصر الزيجات على المصاهرة السورية فقط، بل تتعدّاها إلى الجنسيّات العربيّة الأخرى التي تقيم في المنطقة، كالوجود الفلسطينيّ التاريخي منذ العام1948 ، أو المصريّ جرّاء العمالة أو السعوديّ بفعل السياحة والاستثمار، وذلك لما تحمله منطقة بعلبك – الهرمل من إرث حضاريّ جعلها مقصدًا للكثير من العرب والأجانب.
الأكثر إجحافاً
قد يكون الظلم اللاحق بالمرأة اللبنانيّة المتزوجة من أجنبيّ وحرمانها من منح جنسيّتها لأولادها من أكثر الأمور تعقيدًا وإجحافًا، وهو يمثّل عنوانًا للحقوق المهدورة وعدم المساواة بين الجنسين، وفيه تتجسّد واحدة من أكثر المشاكل المزمنة التي تعاني منها النساء في لبنان بشكل عام وبعلبك- الهرمل بشكل خاص.
قد يكون الظلم اللاحق بالمرأة اللبنانية المتزوجة من أجنبي وحرمانها من منح جنسيتها لأولادها من أكثر الأمور تعقيداً وإجحافاً الذي يلحق بالمرأة اللبنانية، وهو يمثّل عنواناً للحقوق المهدورة وعدم المساواة بين الجنسين
والمعاناة هذه لا تقتصر على النساء فحسب، بل تمتدّ إلى الأولاد، هؤلاء معاناتهم أكبر حيث يعيشون إشكاليّة الوطن والانتماء، فهم لبنانيّو الولادة وأجنبيّو الهويّة، وما يستتبع ذلك من مصاعب في الإقامة والعمل، والحصول على أدنى الحقوق الاجتماعيّة في داخل المجتمع اللبنانيّ.
عدم المساواة بالقانون
حسب قانون الجنسيّة اللبنانيّ الصادر في العام 1925، ينحصر حقّ منح الجنسّية اللبنانيّة بالذين يولدون من أب لبنانيّ، على اعتبار أنّ “قرابة الدم” تعود إلى الوالد وليس إلى الأمّ، وبذلك يحرم القانون الأمّ اللبنانيّة من حقّها الطبيعيّ في إعطاء جنسيّتها لأولادها، وعلى أقلّ تقدير، إلى أولادها الذين يولدون ويعيشون في لبنان، ما يجعل التمييز بالقانون قائمًا على النوع الاجتماعيّ، بحيث تصبح الهويّة الوطنيّة مرتبطة ارتباطًا لصيقًا بهويّة الأب وليس بهويّة الولادة والانتماء، أو بهويّة الأمّ وقرابتها بالدم أو الجينات لأولادها.
قصّة زينب وابنها المصريّ
تحمل زينب عثمان المتزوجة من مصري إجازة في القانون، وتنشط حقوقيًّا واجتماعيًّا، وتكرّس أغلب وقتها في سبيل تأمين حياة لائقة وكريمة لأبنها ميكال الوحيد المحروم من جنسيّتها. وفي حديث مع “مناطق نت” تقول: “إنّ أوّل صعوبة أواجهها في أوراق ميكال هي معاملة الإقامة، التي بحاجة إلى تجديد كلّ ثلاث سنوات، مع التأكُّد ما إذا كان جواز السفر صالحًا أساسًا لثلات سنوات أم لا، والحاجة لتجديد ذلك بالسفارة المصريّة والدفع بالفريش دولار، وإلّا الإضطرار للسفر إلى مصر من أجل تجديد جوازات السفر”.
أمّا في موضوع الضمان الصحّيّ فتقول زينب: “الطبابة مكلفة جدًّا جدًّا، فقبل الانهيار، كان الدولار يساوي ألف وخمسماية ليرة، أمّا الآن ومع الارتفاع الباهض لسعر الدولار، فقد مرض ابني ولم يتمّ ادخاله إلى المستشفى إلّا بعد تأمين مبلغ كبير بالفريش دولار”.
تتحدّث زينب أيضًا عن طفلتها التي فارقت الحياة، طفلة رضيعة في مستشفى زحلة الحكومي فتقول: “عندما وضعت ابنتي في مستشفى زحلة الحكومي سنة 2021، كانت ولادتها مبكرة، فوضعناها “كوفوز” مدة سبعة أيّام، قبل أن تفارق الحياة، ولأنّها أجنبيّة ومش لبنانيّة، ما حطّوها على الوزارة، وصاروا يحسبوا 500 دولار عن كلّ ليلة كوفوز.”
تعتبر زينب أنّ أكبر هواجسها اليوم هي أن يتعلّق ابنها بلبنان ويحبّه، “في البلد الذي ولد فيه ويترعرع ويعيش أيام طفولته بين ربوعه، ويحمل جيناته في دمه من والدته، وفي المقابل كيف سيفتح عينيه على مهنة لا يستطيع ممارستها، لأنّه أجنبيّ، والخوف أن ينعكس ذلك صدمات نفسية تؤثّر عليه، عندها سيحجّم نفسه وأهدافه وأحلامه”.
تؤكّد زينب أنّها ستسعى بكلّ جهدها “لكي يحصل ميكال على منحة لإكمال دراسته خارج لبنان، في أوروبّا مثلًا لكي يستطيع أن يشتغل هناك بما يرغب ويهوى، بلا قيود أو حدود أو حواجز. ففي الخارج تلقائيًّا، العمل يرادف الدراسة”.
تحمّل زينب المسؤوليّة عن معاناتها ومعاناة ميكال “أوّلًا للمجتمع الطائفيّ، يلّلي قبلان بحجّة الطائفيّة أن يكون ذكوريًّا ومجرمًا، ويسلّم بقوانين مهترئة لا تمتّ إلى الواقعيّة ولا العقلانيّة ولا مصلحة الدولة بصلة، وثانيًا إلى المجتمع الذي أنتج ساسة فاسدين يحكمون باسمه طائفيًّا، ويكرّسون هذه الطائفيّة بكلّ المنظومة القانونيّة والتشريعيّة”.
قصّة نهاد وأولادها السوريّين
لا تختلف قصة نهاد شومان من بلدة سرعين الفوقا في قضاء بعلبك، عن قصة زينب عثمان، فنهاد متزوجة منذ العام 2006، من أسامة أبو عباس وهو سوريّ الجنسيّة ويقيم معها في لبنان منذ تاريخ زواجهما، ولديهما اليوم ثلاثة أبناء ولدوا جميعهم في لبنان.
تقول نهاد البالغة خمسين عامًا: “إنّ أولادي الثلاثة جميعهم ولدوا هنا في مستشفيات بعلبك- الهرمل ولديهم وثائق ولادة تثبت ذلك، وهم منذ ذلك الحين يقيمون بشكل دائم ومستمرّ في بلدة والدتهم. تخيّلوا إلى سنة 2012، حتّى استطعت تأمين إقامات مجّانيّة لأولادي في لبنان، في بلدي الذي ولدوا فيه ويعيشون على أرضه مثلهم مثل جميع سكّان ضيعتنا”.
تواجه شومان صعوبات جمّة في مجال التعليم والطبابة، فمن جهة تعتبرهم الدولة اللبنانية أجانب، لا يشملهم ضمان وزارة الصحّة، ولا يستفيدون من التعليم المجّانيّ في المدارس الحكوميّة. ومن جهة ثانية لا يتمّ اعتبارهم لاجئين من سوريّا، لأنّهم ولدوا هنا في لبنان ويعيشون على أرضه وبالتالي لا يستفيدون من مساعدات مفوّضيّة اللاجئين التابعة للأمم المتّحدة العاملة في لبنان، ولا يستفيدون من حقوق المواطنة للمواطنيّن اللبنانيّين، على اعتبار أنّهم من أب غير لبنانيّ، ما جعلهم بين كفّيّ كمّاشة الظلم والمعاناة .
وتشير شومان إلى أنّ أكبر مخاوفها اليوم هي على مستقبل أولادها، “في بلد لا يتمتّعون فيه بأبسط حقوقهم الطبيعيّة ولا سيّما الدخول إلى سوق العمل، أو لجهة حصولهم على إجازة عمل لمزاولة مهنة حرّة، أو لجهة حصولهم على وظائف خاصّة وما يعترض ذلك من صعوبات وتمييز وعنصريّ”.
قصّة زينب عثمان ابنة مدينة بعلبك، أو قصّة نهاد شومان ابنة سرعين، ما هي إلّا نماذج مصغّرة ومتكرّرة عند كثيرات من نساء لبنان، اللواتي يكافحن اليوم للوصول إلى حقوقهنّ الكاملة ومكافحة التمييز القانونيّ القائم على النوع الاجتماعيّ.
المجتمع المدني بمواجهة رجعيّة القوانين
حول تلك المشكلة المتجذّرة تقول الناشطة الحقوقيّة كريمة شبّو، وهي مديرة حملة “جنسيّتي حقّ لي ولأسرتي” لـ “مناطق نت”: “إنّ حرمان النساء من حقّهنّ في إعطاء الجنسيّة لأسرهنّ هو خرق فاضح من قانون الجنسيّة الصادر العام 1925 أيّ قبل استقلال الجمهوريّة اللبنانيّة، وبالتالي هو قانون قديم من عهد الانتداب والاستعمار ولا يصحّ تطبيقه اليوم”.
تشير شبّو إلى أنّ “سلطة الدستور التي تساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات وبين الذكور والنساء هي السلطة الأعلى للقوانين، وعليه فإنّ قانون الجنسيّة هو قانون غير دستوريّ، ورجعيّ وذكوريّ ويمارس عنفًا قانونيًّا ضد المرأة، وينتهك حقوقها الطبيعيّة ويسبّب ضررًا مادّيًّا ومعنويًّا لها ولأولادها ويجب تغييره وتعديله عاجلًا، ومن تبعاته أنّه يسبّب حالة إنكار للمواطنة والحياة الاجتماعيّة والثقافيّة لأسرة المرأة اللبنانيّة”.
وتذكّر شبّو أنّ حملة “جنسيّتي حقّ لي ولأسرتي” انطلقت منذ أكثر من عشرين سنة في لبنان، “وهي أوّل حملة من نوعها في العالم العربي، تهدف للوصول إلى العدالة الاجتماعيّة”. وتوضح شبّو أنّ “الحملة إقليميّة، لكنّها بدأت من لبنان وهي اليوم تنشط في ستّ دول عربيّة هي: مصر وسوريّا والأردن والجزائر والمغرب والبحرين، واستطاعت أن تحقّق تعديلات في قوانين بعض الدول مثل مصر في العام 2014، أمّا في لبنان فإنّ أقصى تصحيح للخلل كان إصدار قانون “إقامة المجاملة” لعائلة المرأة اللبنانيّة الصادر في العام 2010، وهو يبقى قانونًا قاصرًا عن حقّ المرأة الكامل في المساواة كما في الحقوق” .
تؤكّد شبّو “أنّ حقّ المرأة في الجنسيّة هو حقّ إنسانيّ يتعلّق بالمساواة في النوع الاجتماعيّ في المقام الأوّل، وعملية ربطه بأزمة النزوح أو اللجوء أو التغيير الديموغرافي، هو ذريعة ليس أكثر ويعود إلى حسابات وأهداف سياسيّة راحت ضحيّتها المرأة اللبنانيّة وعائلتها”.
وتلفت شبّو إلى “إنّ حقّ الجنسيّة هو حقّ لصيق بالإنسان مثله مثل الحقّ في الحياة والكرامة، ومن المعيب اليوم في لبنان أنّ المرأة تعطي لابنها الحياة ولا تعطيه حق المواطنة”.
زينب عثمان وزوجها محمود حسن وابنهما ميكال
ميكال حسن حاملًا العلم اللّبناني
إبنا نهاد شومان حسن وعلي أبو عباس
النّاشطة الحقوقيّة كريمة شبو
من حملة جنسيّتي حقٌّ لي ولأسرتي
تعليقات: