من زهور شارغ المتنبي لعارف الريس
مع انطلاق عرض "السوق العمومي" (أو العمومية بالمعنى الأدق) في مسرح "مترو المدينة" (كليمنصو –بيروت)، ثمّة الكثير من الهوامش والحواشي يمكن الحديث عنها وتناولها وهي تتعلّق بالسوق وتاريخها وذاكرتها وناسها واستعاراتها واستيهامات الناس حولها...
جاء في ملف بعنوان "شارع المتنبي/ حكاية البغاء في لبنان"، أعدته جريدة "النهار" في بداية السبعينيات من القرن الماضي، أنّ أبا الطيب المتنبي، الذي "ملأ الدينا وشغل الناس" والذي قبل أن يدّعي النبوة، قال متواضعاً:
وكل ما خلق الله وما لم يخلق، محتقر في همتي كشعرة في مفرقي!".
المتنبي العظيم، احتقرته بيروت- بقرار لمجلس بلديتها الممتازة يحمل الرقم 192 وتاريخ 29 آذار 1966- فاطلقت اسمه الكبير على زاروب صغير على هامش السوق العمومية... ومنذ ذلك المساء كبُر الزاروب الصغير ليجتاح السوق الكبيرة التي اشتهرت آنذاك بهذا الاسم. وسوق "بنات الخطأ"(بحسب التسمية التركية) كانت في سوق الخمامير، حول بناء سينما ريفولي المدمّر والزائل، ثمّ انتقلت من هناك إلى محلة الصيفي. بعدها توسعت وترحرحت في الشارع وراء مخفر الشرطة في وسط بيروت العام 1913، أيام الأتراك، أو ما سمى لاحقا بشارع المتنبي. يقال إنّ السوق شيدت في الأصل من أجل ترفيه العسكر العثماني في عهد عزمي بك، والي بيروت، وعرفت حقبتها البارزة في سنوات الانتداب الفرنسي. فمع تأسيس لبنان الكبير، كان عدد بنات المنازل المفتوحة للضيوف زهاء 850 فتاة عربية، بين سورية وفلسطينية ولبنانية، وما لا يقل عن 40 أجنبية، بين تركية ويونانية وفرنسية، أيام كانت الفرنسيات يأتين مع الجيش الفرنسي الذي كان في ربوعنا...
وفي العام 1931، وقّع رئيس الجمهورية آنذاك شارل دبّاس، قانون "حفظ الصحة العامة من البغاء"، فحدّد لوائح أو شروط بائعات الهوى، ومنها ألا يقل العمر عن 21 عاماً، ويحظّر على بائعة الهوى ارتياد الأماكن العامة، وكانت الفتاة المرخص لها تحمل بطاقة صحية تعرّف عنها. الأتراك سبقوا الفرنسيين الى البيوت مفتوحة الأبواب، لكنهم كانوا لا يأخذون ضريبة من المومسات، لأنه عيب أن يودعوا الخزينة العثمانية من "المال الحرام"، لكنهم أجبروا بنات الخطأ على تعليق أشرطة حُمر، أسفل فساتينهن، حين يشأن الخروج من بيوتهن. إلى أن جاء الفرنسيون فمزقوا الأشرطة التركية ووضعوا ضرائب وكتبوا مخالفات عبر القوانين. كانت أسماء "نجمات" السوق الشهيرات تتوالي كالآتي: هيلانة عواد، زبيدة المزرعانية، لوريس شليطا، خديجة لقو، فطومة الحلبية، فريدة أم عبده، بديعة، ماريكا سبيريدون، وفانتين المعراوية. اما نجماته الأخيرات فهن هيلانة نقود، فاطمة حسن، وهدى الحلبية.
***
يقال إن الحكومة اللبنانية حاولت إنقاذ سمعة المتنبي بنقل "السوق العمومية" إلى مكان آخر، لكن نفوذ "بنات الهوى" أحبط تلك المحاولات، لأنهن في هذا الشارع، بالقرب من أفخم ساحات المدينة، حيث "يكثر مرور الغرباء، ويسهل اصطياد الأغنياء". في ذلك الزمان كان الشاعر عبد الرحيم قليلات مديراً للشرطة، وكانت مديرية الشرطة بالقرب من شارع المتنبي، ويروى أنه قال في ذلك شعراً:
الشعر لا تسألوني كيف أَبدعَه
لبنانُ، بل فأسالوني كيف ضيعه
بل فاسألوا المتنبي ما يقول بنا
و"شارع العهر" سميناه شارعه
وتساءل الأديب اللبناني فؤاد سليمان: "من وضع المتنبي الكبير في مثل هذا المكان الصغير الموبوء؟ وماذا يفعل هذا الشاعر العربي النبيل في هذا الشارع -القاذورة؟ انقلوا هذا المسكين من هناك... وتطرقت مجموعة من الدراسات والكتابات إلى شارع المتنبي وساكناته، والتناول يدل على أحوال النبذ للشارع من جهة، وأحوال استيهامات الرجال بحثاً عن رغبات ضائعة من جهة ثانية... ففي تحقيق كتبته الروائية السورية غادة السمان، تناولتْ أستاذاً في الجامعة الأميركية أعدّ دراسة علمية عن فتيات شارع المتنبي، وقد ألقى هذا الأستاذ محاضرة حول هذا الموضوع، و"كادت تقوم مظاهرة بعد المحاضرة تنادي بإعدامه". وهي تقصد الأكاديمي سمير خلف الذي أعدّ بحثاً عن هذا الموضوع صدر بالإنكليزية بعنوان "البغاء في مجتمع متغير" سنة 1965، ولم يترجم منه إلا فصل واحد في مجلة "حوار"... كأن الباحث يتوجس ردّ الفعل على ترجمة كتابه...
وحين رسم الفنان عارف الريس نساء شارع المتنبي، أطلق عليهن عنوان "الزهور"، ووصفهن بـ"عاملات الجسد"، وتمادى في الكلام عن تجربتهن وموقعهن وتعبهن في الحياة العامة، ولمْ يكن سهلاً أن يصوّر هذا الواقع والعالم الهامشي المنبوذ. ففي حفلة افتتاح معرضه، حجزت سيدتان من المجتمع المخملي لوحتين من مجموعته، لكنهما في اليوم الأخير من المعرض اعتذرتا عن الشراء لأن زوج إحداهما لمْ يقبل أن يعلّق في صالون بيته لوحة تمثل عاهرة. ابتسم عارف وقال للزوجة إنه على حق... "أحضري له عاهرة حية لا صورتها، فسيفرح بها ويستقبلها في الصالون وفي أمكنة أخرى". هكذ، انتهى المعرض ولمْ يبع الريس أي لوحة. بعد سنوات، ازداد الطلب على هذه المجموعة، بحيث لم يبق لديّه سوى لوحات قليلة ذات أجواء باردة. لقد اعتاد الناس على عارف الريس بنوع من الرسوم، وحين قطعها بـ"الزهور"، ثارت ثائرة الإيديولوجيين عليه، بل إن بعض النقذاد كتب تأبينا له وأعلن نهايته.
في العام 1991 التقط الفوتوغراف السويسري رينيه بوري صوراً لفندق ماريكا في وسط بيروت. وتظهر في الصورة غرفة متحلّلة تتناثر فيها بقايا الأثاث وبلاط السقف المكسور والحطام العام. الجص الموجود على الجدران متهدّم ومتصدّع، لكن الطلاء لا يزال مرئيًا في مساحات واسعة، بظلٍّ مختلف من اللون الأزرق أو الأرجواني في كل قسم، مع وجود شريط أبيض في الجزء العلوي من الغرفة. من خلال المدخل الموجود في منتصف الصورة توجد غرفة أخرى مدمرة بالمثل ومطلية بظل من اللون الأزرق الفاتح. وقبل أن تزيل شركة سوليدير الفندق وأثره في إطار إعادة الإعمار، سعى أكثر من مصور إلى التقاط صور للفندق ولافتاته (آرماته) وغرفه، منهم فؤاد الخوري(الصورة المرفقة)...
وصار الشارع نوعاً نوستالجيا لكتابة مملّة ومكرّرة... أحد الكتّاب كتب مقالة عن ماريكا والسوق العمومية، وبدا جل ما كتبه، كأنه يتحدث بدلاً من ماريكا، ينوب عنها في الكلام، يجعلها تفكر كما يفكر هو، تتحدّث بأمور عن التاريخ والحرب والهجرات والنسيج الاجتماعي، حتى يتحدث معها بازدراء انطلاقاً من أنها مومس أو قوّادة... يذكرنا بطريقة حديث فلوبير مع كوتشوك هانم في رحلته إلى مصر، فهو تحدث كثيراً عنها وأبقاها صامتة وصنميّة...
ثمة بعض الكتابات عن السوق العمومية تخطّت الاستعارة والتنظير والفانتازم والحديث عن علاقة ماريكا بالكنيسة، فتناولت أجواء الرثاثة التي سيطرت على السوق العمومية بحيث نتوهم للوهلة الأولى أنها كانت واجهة سياحية للبلد، وهي في الواقع كانت بؤرة بؤس، سواء بسِيَر نسائها أو غرف فنادقها أو أثاثها، حتى الرغبة في سوق العمومية كانت تموت، والعلاقة بالنساء هناك أشبه باستمناء بلا خيال، بحسب توصيف أحد زائري السوق في الخمسينيات..
بعد الحرب
وخلال مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، كان اسم ماريكا جاذباً ليكون عنواناً عن البغاء في لبناني، هي "النجمة" وصاحبة الحكاية والأسطورة والشخصية القائمة على التناقضات بين غرامها وبيعها اللذة، وتكاد تكون هاربة من رواية من روايات أميركا اللاتينية أو حتى الروايات البوليسية، خصوصاً حين نقرأ أن إحدى اللواتي قتلهن السفاح فيكتور عواد في نهاية الاربعينات كانت تعمل عندها. ومع إن ملف جريدة "النهار" المذكور أعلاه يقول بأنها رحلت عن 54 عاماً حزيراناً، ويكتب عنها بشيء من التنمر والتهكّم، نقرأ في إحدى قصاصات جريدة "الشرق"، أنه في يوم الثلاثاء 24 آب 1999 ألصقت نعوتها على جدران كنيسة القديس أنطونيوس وعلى جدران بعض المباني والمنازل العامة: "سكان شارع سليم الخوري، فرن الشباك ينعون إليكم بمزيد من الأسى واللوعة فقيدتهم الغالية المأسوف عليها المرحومة الأنسة فيكتوريا توتونجيان(بوريان) المنتقلة إلى رحمته تعالى يوم الثلاثاء 24 آب 1999 متمّمة واجباتها الدينية... يحتفل بالصلاة لراحة نفسها في تمام الثالثة من بعد ظهر الأربعاء الواقع في 25 الجاري في كنيسة القديس أنطونيوس الكبير للروح الاثوذوكس فرن الشباك. تقبل التعازي قبل الدفن في صالون الكنيسة... الرجاء إبدال الأكاليل بالتبرع للكنيسة، واعتبار هذه النشرة اشعاراً خاصاً. فيكتوريا توتونجيان بوريان أشهر نساء الليل اللبنانيات المعروفة باسم ماريكا سبيريدون عن عمر يناهر التسعين عاماً. وقد صلى عليها الأبوان من دون أن يرثياها ووريت في الثرى".
وبحسب جريدة "الشرق" كانت ماريكا ذات "جمال أخاذ وكذلك البنات اللواتي اشتغلن تحت امرتها في مهنة الدعارة وبيع اللذة، بحيث كان بيت ماريكا يجتذب شخصيات لبنانية وعربية ودبلوماسية وأجنبية يرغبون في قضاء اوقات يستثمرونها لرغباتهم في بيوت الراحة التي بلغ عددها في شارع المتنبي ومتفرعاته حوالى السبعين بيتاً. وماريكا كانت أوقفت كل نشاطاتها التي مارستها في صباها، مبتعدة عن المتاجرة بالرقيق منذ حوالى 26 سنة(أي منتصف الثمانينيات)، منصرفة الى ملازمة منزلها في محلّة فرن الشباك... وكانت تقوم من وقت لآخر بأعمال خيرية للمحتاجين"... وللحديث صلة.
(رينيه بوري... فندق ماريكا)
تعليقات: