ما أصاب الجنوب اللبناني: أذى عميق وخسائر لا تُعوّض

ستؤثر الخسائر جراء أحداث الجنوب على التّحسن التدريجيّ للقطاع الزراعي (Getty)
ستؤثر الخسائر جراء أحداث الجنوب على التّحسن التدريجيّ للقطاع الزراعي (Getty)


المُعاين للمشاهد المرّوعة، المتأتيّة من الجنوب اللّبنانيّ، وليس فقط تلك المرتبطة بالعمليات العسكريّة، بل التّي تستعرض حجم الدمار الذي لحق بالغابات والأحراج والبساتين وكامل الرقعة الخضراء، على الحدود وفي الداخل الجنوبيّ، فلا بد أن يلمح طيف الأزمة الآتية، المتمخضّة عن القسوة والعنف والمظلوميّة التّي لحقت سكّان هذه المناطق، جراء استمرار النزاع المُسلّح؛ ويرى جليًّا المستقبل المُقترح، الذي يصدّر رؤية سوداويّة، لا تتوقف فيها الأزمات الآنيّة والموسميّة (كضرّر موسم زيتون)، بل تحمل التّداعيات الجسيمة بعيدة الأثر، التّي سيدفع فاتورتها حتمًا المواطنون، بصحّتهم وسُبل معيشتهم ومصدر أرزاقهم، واستمراريتهم.

وعطفًا على التّقرير الذي أشارت فيه "المدن" إلى النّتائج الأوليّة للتقييم الأمميّ (UNDP) لتبعات حرب غزّة على لبنان المجاور فضلًا عن تداعيات النزاع العسكريّ جنوبيّ لبنان، على الاقتصاد المحليّ (راجع "المدن")، شمل التّقرير أيضًا العواقب البيئيّة والزراعيّة والاقتصاديّة التّي نجمت عن هذا النزاع -حتّى شهر كانون الأوّل الجاري- والمحتمل تفاقمهما مع استمراره، بالنظر إلى السّياق الديناميكي لتطور الأحداث تصاعديًّا.


الأضرار الإجماليّة

بتعرض نحو 91 قرية في محافظة النبطيّة والجنوب للهجوم خلال النزاع، تمّ توثيق ما يربو عن 1768 هجومًا، حتّى السّادس من الشهر الجاري، من قبل المركز الوطنيّ للبحث العلّمي (CNRS)، وتشمل الهجمات القصف والغارات الجويّة (1564)، والقنابل المضيئة والحارقة (90)، القذائف الفوسفوريّة (62)، بالإضافة إلى أنواع أخرى من الهجمات، التّي أسفرّت عن سقوط الضحايا، ونزوح الآلاف (64 ألفًا، ويتوزع هؤلاء النازحون على 10 أقضية -حوالى 305 مناطق عقارية- في لبنان)، وتدمير الأصول والبنيّة التّحتيّة، وتعطيل الخدمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة. وتبين أن المناطق المتضرّرة بشكلٍ مباشر من القصف والتّهجير هي جميع القرى الحدوديّة من الناقورة باتجاه مزارع شبعا (بطول 100 كم وعمق 5 كم). وتضرّرت أكثر من 50 قرية بشكلٍ مباشر في أربعة أقضية (صور وبنت جبيل ومرجعيون وحاصبيا).


موسم الزيتون والأضرار الزراعيّة

وفقًا لوزارة الزراعة، تبلغ المساحة الإجماليّة التي تغطيها بساتين الزيتون في عام 2010 حوالى 62 ألف هكتار. تمثل هذه المساحة حوالى 23 في المئة من إجمالي المساحة الزراعية المستخدمة في لبنان و45 في المئة من إجماليّ المساحة المزروعة بالمحاصيل الدائمة. فيما يوفر هذا المحصول دخلاً لحوالى 110,000 أسرة. ويقدر الدخل المتولد من زراعة الزيتون بنحو 7 في المئة من إجمالي الإنتاج الزراعيّ في لبنان. وتعتبر زراعة الزيتون ذات أهمية خاصة لجنوب لبنان والنبطية، لأنها واحدة من سلاسل القيمة الرئيسية في هذا المجال. أيضًا، بالنظر إلى زيت الزيتون عالي الجودة المنتج؛ بدأ المنتجون اللبنانيون في اختراق الأسواق الدوليّة بشكل متزايد. بينما يبدأ موسم قطف الزيتون عادة في نهاية شهر أيلول ويستمر حتى بداية شهر تشرين الثاني (حسب ارتفاع كل قرية).

وقد حدّ النزاع المستمر من قدرة المزارعين والأسر على قطف الزيتون، على الحدود وكذلك في القرى الواقعة بعيدًا عن الحدود، خوفًا من أي توسع مفاجئ للقصف. والأهم من ذلك، تسببت الحرب المستمرة في فقدان عدد هائل من أشجار الزيتون حيث تمّ تدميرها مباشرة بواسطة قنابل الفوسفور الأبيض المحرمة دوليًّا وغيرها من المتفجرات التي أحرقتها.

أفادت وزارة الزراعة بفقدان حوالى 47,000 شجرة زيتون في منطقة النزاع. وهو ما يمثل حوالى 0.44 بالمئة من إجمالي عدد أشجار الزيتون في البلاد (بالنظر إلى متوسط معتدل يبلغ 200 شجرة لكل هكتار). وبناء على ذلك، تأثر إنتاج زيت الزيتون بشدّة، وأفادت بعض مصانع معاصر الزيت أن إنتاجها انخفض بنسبة 75-80 في المئة، مقارنة بالعام الماضي. ويعزى الانخفاض في الإنتاج أيضًا إلى انخفاض محصول الزيتون هذا العام، بسبب ظاهرة الحمل البديل لأشجار الزيتون. ونتيجة لذلك، بدأت أسعار زيت الزيتون في الارتفاع في السّوق المحليّة، وسط تراجع احتمال تصديره إلى الأسواق الدوليّة.


باقي الزراعات والثروة الحيوانيّة

وفقًا لوزارة الزراعة، فإن المناطق الزراعيّة التّي تأثرت بالحرائق المفتعلة من قبل الجانب الإسرائيليّ هي 97,800 م2 من بساتين الزيتون، و66,000 م2 من مزارع الحمضيات، و98,800 م2 من مزارع الموز. علاوة ًعلى ذلك، اشتعلت الحرائق في 20800 متر مربع من المراعي. كما أبلغت وزارة الزراعة عن تدمير مستودع للأعلاف بمساحة 600 م2 بالإضافة إلى تدميرٍ كامل لحوالى 60 دفيئة زراعيّة (خيم). وتمّ الإبلاغ عن مزرعة نفق فيها ما يربو عن مئتي ألف طائر ودجاج و700 رأس من الماشية. هذا وناهيك عن تدمير 250 خلية نحل بالكامل، فيما وجد الصيادون صعوبة في الوصول إلى مناطق الصيد بسبب الخطر الأمنيّ.

وما يُفاقم خطورة المأزق هو أن الصراع قد وقع، في لحظةٍ يمرّ الموسم الزراعيّ فيه في فترةٍ حرجة، وذلك بسبب تزامنه مع فترة حاسمة لمختلف الأنشطة الزراعيّة، بما في ذلك الحصاد والحرث وزراعة المحاصيل كالزيتون والخروب والحبوب. الأمر الذي من المتوقع تأثيره على الدخل السّنويّ للأسر المقيمة. فيما كان للصراع تأثير واسع النطاق على العديد من سلاسل التوريد الزراعية الهامة. وتشمل هذه الإنتاج الحيوانيّ والألبان، وزراعة نحل العسل، والغابات، وتربية الأحياء المائيّة. ولا يؤثر الاضطراب في سلاسل القيمة هذه على الدخل المباشر وسبل عيش المزارعين والأسر المعنية وحسب، بل له أيضا آثار أوسع نطاقًا على الأمن الغذائي والاقتصاد المحليّ في هذه المناطق المتأثرة بالنزاع. ويعد فقدان سلاسل التوريد هذه مصدر قلق كبير، لأنه لا يؤثر فقط على إنتاج المنتجات الغذائية والزراعيّة، ولكن أيضًا على التوازن البيئيّ والاستدامة في هذه المناطق.


الأضرار على المدى البعيد

وتبين أن هذه الخسائر في الزراعة والثروة الحيوانيّة (الإنتاج الحيوانيّ) وتربيّة الأحياء المائيّة والحراجة الزراعيّة، لها ارتدادات على الاقتصاد اللّبنانيّ، الذي زادت في أعقاب الأزمة مساهمة هذا القطاع في الاقتصاد بشكلٍ كبير وصل إلى 9 بالمئة عام 2020، حين اتجه الاقتصاد اللّبنانيّ نحو استبدال الواردات لبعض السّلع الاستراتيجيّة وتحديدًا القمح والحبوب، بالإنتاج المحلي تعويضًا للاضطراب في سلاسل التّوريد الناجمة عن جائحة كوفيد – 19 والحرب على أوكرانيا، والنقص في احتياطات العملات الأجنبيّة.

هذا فضلًا عن إسهام القطاع بـ80 بالمئة من الناتج المحليّ الإجماليّ، وخصوصًا في المناطق الفقيرة مثل عكار والضنية والبقاع الشمالي وجنوب لبنان. كما أن هذا القطاع مساهم رئيسي في خلق فرص العمل. يساهم ما يقرب من 20-25 في المئة من القوى العاملة في لبنان في القطاع الزراعي: 12 في المئة على أساس التفرغ الكامل، و13 في المئة عمالة موسميّة. ومن المتوقع أن تؤثر الخسائر على هذا التّحسن التدريجيّ للقطاع الزراعي (المأزوم أساسًا من حيث البنى التّحتيّة والاهتمام الرسميّ)، بصورةٍ قد ترده إلى ما كان عليه قبل الأزمة اللّبنانيّة، أو أسوأ.

الأضرار البيئيّة على المديين المنظور والبعيد

وعلى صعيدٍ متصل، كان لحرائق الغابات تأثير كبير على الأنظمة الإيكولوجيّة الطبيعيّة، ما يُعيق عمليات الاسترداد بسبب تعطل العمليات البيئيّة. ونظرًا لخطورة الفسفور الأبيض على الكائنات الحيّة المختلفة، مؤديًا إلى وقوع حوادث وفاة مُوثَّقة بين الثدييات والطيور والأسماك، متسببًا في آثار بيئية طويلة الأمد، بما يتجاوز استخدام الفسفور الأبيض تأثيره الفوريّ، ليشكل مخاطر مستمرة يصعب التنبؤ بها بسبب احتراقه المطول وصعوبة السيطرة عليه، مما يفرض مخاطر كبيرة على صحة الإنسان وسلامة البيئة.

وقد تأثرت البنى التّحتيّة لشبكات المياه بشكل كبير، مما يشكل تهديدًا لانتشار الأمراض التي تنتقل عن طريق المياه وتدهور البيئة. بينما تراجعت نوعيّة التربة في منطقة النزاع بسبب التدمير الماديّ والتلوث الناتج عن انتشار المعادن الثقيلة والمُركّبات السّامة من الأسلحة المتفجرة، وقد أدى رشّ الفسفور الأبيض المفرط، إلى تقليل خصوبة التربة وزيادة حموضتها. ويتوقع أن يؤثر الصراع أيضًا على إدارة النفايات الصلّبة، حيث يؤدي تعطيل إدارة النفايات إلى دفنها وحرقها بطرق غير آمنة، مما يتسبب في تأثير سلبي على الأنظمة البيئية.

تعليقات: