مدارس جبل عامل.. من تحت السنديانة إلى الحوزات والإرساليّات


يطلقون عليها تسمية “مدرسة تحت السنديانة”، ليختصروا وصف ذاك الصفّ التعليميّ البدائيّ، المتمثّل برجل دين، متربّع على أريكة، يعتمر طربوشًا أحمر، وبجانبه مجموعة من قضبان الخيزران، متفاوتة الأحجام، ليتمّ استخدامها كعقوبة للصغار، بحسب الأقرب والأبعد. كلّ هذا يحدث تحت شجرة كبيرة، كثيفة الأوراق، لاتّقاء حرارة الشمس الحادّة في القرى.

في مدارس القرآن، كانت المنهجيّة تبدأ بتعليم الطفل قراءة الأحرف وكتابتها، ثمّ الكلمات، ثمّ حفظ السور الصغيرة من جزء “عمّ” و”تبارك” و”يس”، أمّا حفظ السور مع المقدرة على كتابتها وتجويدها فكانت أعلى المراتب.

كان مبدأ الترغيب، والاحتفاء بالمتميّزين معتمدًا في المدرسة القرآنيّة، فقد كانت تتمّ مكافأة الفتيان الذين يختمون القرآن بأخذهم مع رفاقهم إلى رابية ذات إطلالة، أو عين ماء، أو ضفّة نهر، حيث يُحتفَل بهم بتقديم أطعمة مميّزة في ذلك الحين، مثل كبّة العدس، أو بتوزيع الزبيب واللوز.

في حالات أخرى، كان رفاق الصبيّ يذهبون إلى بيت التلميذ المتخرّج، ويرشقون بابه بالحجارة الملفوفة بالمناديل كطقس احتفائيّ! بعدها تقوم الأمّ بتقديم “الحلوينة” إليهم فرحًا بختم ابنها القرآن.


أشهر مدارس جبل عامل

قديمة هي الكتاتيب في جبل عامل، لكنّها حقّقت انتشارًا واسعًا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. من تلك المدارس المعروفة في الجنوب، نذكر مدرسة حناويه التي تأسّست سنة 1878، كذلك مدرسة بنت جبيل التي تأسّست سنة 1881، ومدرسة النبطيّة الحديثة 1882، وقد أسسها رضا بك الصلح، ومدرسة الحميديّة في النبطية، سنة 1862، أسّسها السيد حسن يوسف الحسينيّ، والمدرسة النوريّة في النبطية الفوقا، ومدرسة المقاصد الخيريّة الإسلاميّة في النبطية، سنة 1899. وفي الكوثرية أنشأ الشيخ حسن قبيسي مدرسة، وفي جباع مدرسة أنشأها الشيخ عبدالله نعمة.

أمّا السيّد حسن علي إبراهيم فقد أنشأ حوزة دينيّة في بلدة أنصار، لتتحوّل مقصدًا للعديد من طلّاب العلم من بلدات جنوبيّة قريبة وبعيدة. عند وفاة السيّد حسن، في العام 1911 آلت المسؤوليّة إلى ابنه السيّد محمّد في إدارة المدرسة، حيث يتعلّم الناشئة العلوم الحديثة ومبادئ الكتابة واللغة والحساب، كذلك العلوم الدينيّة والفقهيّة. ثمّ توقفت المدرسة مع انطفاء نيران الحرب العالميّة الأولى.

في نهاية العهد العثمانيّ، وحتى يومنا هذا، هناك منطقة في أنصار تُعرَف بـ”منطقة المدارس”، وهي تقع في محيط مركز القرية القديمة لناحية الشمال. وبالإضافة إلى المدرسة الآنف ذكرها، كان يعلّم في كتاتيب البلدة الشيخ أحمد الجمّال في منزله لغاية الأربعينيّات، يعاونه في بعض الأوقات الحاج داوود الكركي من بلدة خرطوم، وأيضًا محمود الحاج حسين وهبي، وعبد الرسول الصعبيّ.


الكراريس الأولى

على رقائق من الحجارة البيضاء، كان التلامذة يدوّنون دروسهم، وهي أشبه ما تكون بكرّاس للطالب حاليًّا، وكان يُكتب عليها بالفحم، واستخدمت بعد ذلك الألواح الخشبيّة المغلّفة بطبقة من طلاء، وكان يكتب عليها بالطباشير، التي لم تكن قد اتّخذت شكلها المرتّب المشذّب، أمّا الممحاة فكانت عبارة عن خرقة من قماش.

في ما بعد صار اللوح معدنيًّا، تنكيًّا، حيث يكلّف السمكريّ بصناعة أربعة ألواح من تنكة الكاز، يشتريها الطلّاب للكتابة عليها. بالنسبة لأداة الكتابة، فكانت عبارة عن قلم غزّاز، بينما الحبر سائل من حجر كلسيّ، حيث يُنقع الكلس بالماء ليذوب ويُغلّف القلم بهذا المزيج، ويكتب الطالب على اللوح. بعد ذلك استعمل التلاميذ الريشة وكانت لها أرقام، غير أن الاكثريّة اعتمدوا الريشة رقم أربعة.

غالبًا ما كانت مواقيت التعليم مرتبطة بالفصول والمواسم، فمع بداية الربيع تنطلق الدراسة، وعند مطلع الخريف تنتهي. وكانت الصفوف في الهواء الطلق حينما يكون الطقس مشمسًا، وفي غرفة مسقوفة إذا كان التدريس في الأوقات الباردة والماطرة.


طلّاب حُفاة

أمّا المدرسة التي هي أقرب إلى نموذج مدارس اليوم، فكانت عبارة عن غرفة واحدة في أنصار تدرّس نحو ثلاثين تلميذًا من الذكور، يجلسون على مقاعد خشبيّة، أمامهم لوح أسود، ويدرسون على مدى ستّ ساعات موادّ متعدّدة منها العربيّ والفرنسيّ مع فسحة استراحة عند الساعة العاشرة، يذهب في خلالها معظم الطلّاب إلى بيوتهم القريبة ليتناولوا ما تيسّر لهم من طعام.

لم يكن لباس التلاميذ موحّدًا، لكنّ أغلبهم كان يرتدي السراويل القصيرة تأثّرًا بالحالة الفرنسيّة أنذاك. بعض الطلاب كانوا حفاة، ومن يمتلك حذاء فكان في القدم من السنة للسنة، يُشترى غالبًا من النبطية، أو خياطة اسكافيّ البلدة، كذلك كانت الحقائب التي تحمل الكتب، خياطة يدويّة من قماش تفصّله وترتقه الأمّهات.


دور الإرساليّات

لم يكن المشهد التعليميّ في جبل عامل وليد ظروف الأمكنة فحسب، بل كانت الحالة التعليمية نتيجة مؤثّرات عديدة تمظهرت في باقي المناطق اللبنانيّة، منها ما هو مرتبط بسياسات السلطنة العثمانيّة، ومنها ما هو متعلّق بالدور الكبير للإرساليّات المسيحيّة التي انتشرت في المناطق كافّة، بما فيها صيدا، وصور، وجزّين.

إذا كانت النهضة في القرن التاسع عشر، قد شملت مختلف نواحي الحياة في بلادنا، فإنّها بدأت، وتركّزت بشكل خاصّ على النواحي الثقافيّة والفكريّة، ففي هذا القرن عرفت بلادنا الانتشار الواسع للتعليم، وقيام المدارس الحديثة، ومعاهد التعليم العليا، لأوّل مرّة، وكذلك تأسيس المطابع وإصدار الصحف، واستغرق هذا الأمر القرن التاسع عشر بمجمله.

ساهمت الإرساليّات الاجنبية، باعتبارها حركات تبشيريّة مسيحيّة، قادمة من أوروبّا وأميركا، في رفع مستويات التعليم في بلادنا، فكانت موجة تغييريّة كبرى، دفعت بجميع الطوائف لاستنساخ تلك النماذج، ولو أنّ البعد الدينيّ كان في خلفيّة أكثر تلك الحالات.

يقول المؤرّخ أسد رستم (1897– 1965): “كان اليسوعيّون قد جاؤوا إلى بلادنا أوّل مرّة سنة 1635، وأقاموا مدرسة دينيّة في عينطورة سنة 1834 افتتحها الأب فروماج العازاريّ. كما أنشأوا مدارس أخرى غيرها، وظلّوا في بلادنا مدة حتى ألغى البابا جمعيّتهم فعادوا إلى بلادهم، ثم رجعوا في عهد إبراهيم باشا سنة 1871 وراحوا يقيمون المستوصفات ويؤسّسون المدارس الحديثة في مختلف أنحاء جبل لبنان، ومدن الساحل، وكذلك في حلب ودمشق”.

في سنة 1843 حوّل الأب بلانشيه اليسوعيّ، دار الأمير حسن الشهابيّ في غزير إلى مدرسة دينيّة لجميع الطوائف الكاثوليكيّة في الشرق، ونقلت سنة 1875 إلى بيروت، حيث تحوّلت إلى معهد جامعيّ عال، عرف باسم جامعة القدّيس يوسف، حيث لا تزال قائمة إلى يومنا هذا.

أسّس الأب بلانشيه رهبانيّة مار يوسف للراهبات في بكفيّا، وتلاه الأب ريكادرنه، ونظَّم نشاط راهبات المحبّة في معلّقة زحلة، سنة 1847، فأظهرَت تلك المجموعة اهتمامًا كبيرًا بتربية بنات القرى المهملة. وأقامت راهبات القدّيس يوسف من مرسيليا مدرسة في بيروت ومؤسّسات مختلفة في مدن عدّة، كما أنشأت راهبات الناصرة من ليون مدرسة في بيروت سنة 1873.

ساهمت الإرساليّات الاجنبية، باعتبارها حركات تبشيريّة مسيحيّة، قادمة من أوروبّا وأميركا، في رفع مستويات التعليم في بلادنا، فكانت موجة تغييريّة كبرى، دفعت بجميع الطوائف لاستنساخ تلك النماذج.

وفي سنة 1853 أقامت الراهبات الفرنسيسكانيّات مدرسة الأرض المقدّسة في صيدا لليتيمات من البنات، وفي السنة التالية أنشأت راهبات مار يوسف الظهور، مدرسة لهنّ في صيدا، كان معظم تلميذاتها من اليتيمات اللواتي يجدن فيها المأوى والمأكل والملبس، وأقمن فيها مشغلًا للفتيات لتعليمهنّ الخياطة، واتّخذن من خان الإفرنج مركزًا لهنّ، كما ذكرت منى عثمان حجازي في بحثها لنيل الماجستير.

أمّا المؤرّخ فيليب حتّي (1886- 1978)، فقد تطرّق في كتابه “مختصر تاريخ لبنان”، إلى دور الراهبات البروسيّات، ممّن قدمن إلى بلادنا سنة 1860، واقتصر نشاطهنّ على دور الأيتام والمستشفيات، وأقمن مراكز لهنّ في صيدا، ثم انتقلن إلى بيروت، والتحقن بمستشفى القدّيس يوحنا الألمانيّ.

وفي صور أقام الآباء الفرنسيسكان مدرسة الأرض المقدّسة سنة 1868. كما أقيمت مدرسة راهبات مار يوسف الظهور في صور سنة 1882، واستمرت مدرسة الأرض المقدّسة بالعمل حتّى الحرب العالميّة الأولى حيث توقّفت، ثمّ عادت للعمل في عهد الانتداب، وكانت مدرسة ابتدائيّة. بينما أقام اليسوعيّون مدرسة القدّيس يوسف في صيدا سنة 1904 وقد اشتهرت باسم “الفرير”.


المدارس الرسميّة

لم يكن العثمانيّون، في مطلع القرن التاسع عشر مهتمّين بترقية التعليم، بل إنّهم عملوا على خنق كلّ حركة من شأنها نشر المعارف والعلوم الحديثة، وكان يساهم في هذا الاتّجاه بعض رجال الدين ممّن كانوا يخشون كلّ تجديد وإصلاح.

قبيل منتصف القرن التاسع عشر، ونتيجة للإصلاحات التربويّة التي قام بها إبراهيم باشا في بلادنا، ومجاراة للجهد الذي قام به المبشّرون الأجانب في هذا السبيل، أصدرت الدولة قانون المعارف سنة 1846 الذي جعل التعليم الزاميًّا مجّانيًّا، تحت رقابة الدولة، ورتبته في ثلاث مراحل هي: الابتدائيّة، والثانويّة، والعالية، وفصّل ذلك كله، وأقام مجلسًا للمعارف ليشرف على أمور التعليم في أنحاء البلاد كافة.

كانت المدارس قليلة العدد، إذ لم تكن هناك كتب بالمعنى المتعارف عليه، لقلّة الكتب المطبوعة، وندرة القرطاسية. كما وأنّ الطاولات لم تكن متوافرة بالشكل الذي نعرفه اليوم، ولذلك كان الطلّاب يفترشون الأرض، او الحصائر القش. يُذكر أنّ اللغة التركّية كانت إلزاميّة حيث كان توظيف هؤلاء الطلّاب في المؤسّسات التابعة للدولة العثمانيّة من أبرز أهداف التعليم أنذاك. هذا وقد سمّيت المدارس التي أنشأتها الدولة بالمدرسة “الرشديّة” وكانت كلّها ابتدائيّة، أمّا المرحلة الإعداديّة فسمّيت بـ”المكاتب”.

هكذا كان التعليم في بلادنا، ساحة تجاذبات دينيّة، وسياسيّة، هدفها الاستحواذ على عقول التلاميذ، لتوظيفهم كـ”جنود” في المشاريع الكبرى. هذه الحالة لم تتوقّف حتّى يومنا هذا، حيث إنّ الكثير من المدارس في جبل عامل، بل في لبنان عمومًا، تنشط على خلفيّات دينيّة وسياسيّة، ولو أنّها تغلّف بالعناوين التربوية “المحايدة”.


* المصدر: https://manateq.net


مدرسة في بيروت في العام 1931
مدرسة في بيروت في العام 1931


من المدارس الأولى في طرابلس
من المدارس الأولى في طرابلس


طلاب مدرسة في النبطية يشاركون في احتفال رسمي بدايات القرن الماضي
طلاب مدرسة في النبطية يشاركون في احتفال رسمي بدايات القرن الماضي


تعليقات: