19 قتيلاً بأسبوعين: طرق الموت المجاني في لبنان

انحلال تدريجي للبنى التحتية وغياب الصيانة (مصطفى جمال الدين)
انحلال تدريجي للبنى التحتية وغياب الصيانة (مصطفى جمال الدين)


منذ يومين، كان التّجول في شوارع العاصمة بيروت، يعني الاختبار الحيّ لمشهد الانحلال لكل أطوار المدينيّة في لبنان، وانهيار فكرة "المدينة المرّنة" لصالح واقع المدينة الرثّة، التّي تُغرق مواطنيها بالصرف الصحّيّ إذا ما شاؤوا المشيّ في شوارعها، وتُضلّلهم بعتمتها الكالحة إذا ما أرادوا الاحتفاء بأعيادهم ولو مرةً في السّنة، بينما يموت شبابها، موتًا مجانيًّا وبصورةٍ يوميّة على طرقاتها الرديئة.


عداد حوادث السّير

حسب الدراسة التّي أطلقتها الأكاديميّة اللّبنانيّة الدوليّة للسّلامة المروريّة، عن واقع الصدامات المروريّة في لبنان منذ بدء تطبيق قانون السّير عام 2015، أّنه ومنذ ذلك التّاريخ حتّى اليوم سقط 4 آلاف قتيل و50 ألف جريح على امتداد 35 ألف حادث، فيما تبين أن 44 بالمئة من ضحايا الطرقات هم من السّائقين (22 % مستخدمي الدراجات الناريّة، 45% ما دون 18 عاماً)، و39 بالمئة منهم هم من الضحايا المشاة، و17 بالمئة من الركاب. والمفارقة أن هذه الأرقام تحتمل الزيادة، خصوصًا أن عددًا من الحوادث لا تقوم القوى الأمنيّة بالتّحقيق فيها، أكان بسبب إحجام المواطنين عن التّبليغ أو نتيجة لوقوعها في الأرياف والأطراف النائيّة غالبًا عن نطاق الإشراف والتّدخل الرسميين. وغياب الأرقام الموثوقة والدقيقة حال دون أي مبادرة قانونيّة جديّة لتغيير الواقع، منذ عام 2015 (تاريخ تطبيق قانون السّير الجديد).

ولما كان بالإمكان القول إنّه وبمراقبة التّرتيب التّصاعديّ لأرقام حوادث السّير منذ بداية العام الحاليّ حتّى حينه (راجع "المدن")، والتّي بلغت كحصيلة سنويّة ما يتراوح بين 350 و600 قتيل (مع احتساب ضحايا حوادث الدراجات الناريّة أكان من السّائقين أو المشاة)، فإن أزمة الطرقات وفوضاها لم تعد مرتبطة وحسب بسوء أخلاقيات السّائقين وتهورهم، بل بإهمالٍ مقصود وممنهج لظاهرة الهدر الموصول لأرواح المواطنين واستنزاف مواردهم الماديّة، وكذلك موارد الملك العام المتمثلة بالطرقات وما ينجم عن الحوادث من أضرار فيها.

وحتّى لحظة كتابة هذا التّقرير، قتل ما يربو عن 19 شخصًا (بغضون أسبوعين) و125 جريحًا، ضمن الحصيلة الأوليّة لحوادث السّير في لبنان، على امتداد كانون الأوّل فقط، والتّي بلغت حوالى 102 حادث سير مُسجل في محاضرٍ عدليّة (جزء لا يُستهان بالحوادث سببها العوامل المناخيّة)، حسب غرفة التّحكم المروريّ ومنظمة YASA For Road Safety”".


تقصير رسميّ وتقاذف المسؤوليات

وإذ تتناسل أسباب التّصاعد التّدريجيّ، بين تلك التّي ترتبط برداءة الطرقات والجسور والأزقة الذي يغيب عنها أي شكل من أشكال الصيانة الدوريّة، ما يحول دون قدرتها على استيعاب الزيادة المستمرة في حركة السّير وأعداد السّيارات والنمو السّكاني وتمدّد الضواحي، ناهيك برداءة البنى التّحتيّة والإمدادات البديهيّة كالإنارة وإشارات السّير، وغياب التّدابير اللوجيستيّة والأمنيّة (غياب الدوريات بسبب تفاقم محنة قوى الأمن الداخليّ)، لمحاسبة المعتدين على الممتلكات العامة، من أرصفة المشاة وصولًا لأغطية الصرف الصحيّ. فضلًا عن استمرار توقف مصلحة تسجيل السّيارات "النافعة" وكذلك أعمالها المرتبطة بالميكانيك وتقديم وتجديد رخص القيادة.

كلّ هذا من دون التّوقف عند العامل المستجدّ الذي بات لا يُمكن تجاهله والمُسهم الأكبر مؤخرًا في التّسبب بحوادث سير، والمرتبط تحديدًا باستفحال مشهديّة غرق الطرقات اللّبنانيّة بالفيضانات التّي من المتوقع استمرارها وتفاقمهم ما دام لبنان أصلًا يعاني من أشدّ الحوادث البيئيّة تطرفًا والناجمة عن التّغير المناخيّ (راجع "المدن") من دون أن يقدم المعنيون أي التزام لتدارك ومواكبة هذه التّغيرات، لجهة الاستجابة للتّوجه العالميّ، للإدارة المرّنة للمدن، وتحديدًا البنى التّحتيّة، الصرف الصحيّ، والشبكات الجوفيّة ومقدرتها على مقاومة الظواهر المتطرفة مثل الفيضانات، واكتفائهم بتقاذف التّهم والمسؤوليات.

وفيما يبدو أن هذا التّنصل من المسؤوليات، أو التّشتت الرسميّ بأفضل الأحوال، بات شماعةً لتبرير أي جديدٍ يطرأ على الشارع اللّبنانيّ، من الفيضان وصولًا لحادث السّير؛ وقد سبق وتحدثت "المدن" عدّة حوادث قضى فيها شبان فقط بسبب الإهمال هذا، فيما لم يتحمل أي من المعنيين وزر التّفلت في الشوارع العموميّة، ، حيث قامت البلديات ووزارة الأشغال بتحميل بعضها البعض المسؤولية في كل حادث مروري أو أي مشكلة تتعلق بسوء حال الطرق. يشمل ذلك الطرق التي تشهد تعديات عديدة، سواء كانت عمرانيّة أو سُجلت فيها سرقات للممتلكات العامة، مثل أغطية الصرف الصحيّ التي أدّت إلى وفاة العديد من هؤلاء الشبان؛ على شاكلة السّجال الذي حصل بين وزيريّ الأشغال العامة والطاقة والمياه منذ يومين.

تعليقات: