منذ ثلاثينيات القرن الماضي ، بدأ الغرب الجماعي تطبيق مشروع إزالة ومحو ذاكرة الأمكنة في فلسطين ، فهدمت مدن وقرى ومزارع واسواق وابنية تاريخية ودينية وتراثية عريقة ، ومتجذرة في الذاكرة التاريخية والشعبية لفلسطين ، هنا يأتي السؤال "أتزول ذاكرة الشعوب بزوال ذاكرتها العمرانية ؟" وإذا كان الجواب كلا ، فإن السؤال الذي يطرح نفسه تلقائياً هو "إذا ازيلت الذاكرة المكانية والعمرانية لشعبٍ من الشعوب ، ما الذي يبقى من تاريخه إذاً ؟"
والحقيقة أن تاريخ الشعوب يبقى حياً وفاعلاً وقادراً على الحضور ، بقدر ما يبقى حياً في الذاكرة والوجدان الشعبي لأفراده وجماعاته ، وبقدر ما يبدع المجتمع آليات وأساليب وتقنيات لتوريث الأجيال المتعاقبة ما اختزنته ذاكرته من صور وانطباعات ومفردات وتفاصيل ، عن ذاكرته التاريخية ، وذلك من خلال ما تحفظه ذاكرته الشعبية وما ينتجه هذا المجتمع من فنون وعلوم وآداب وحرفٍ وأزياء ورياضة وعادات وتقاليد ، وبقدر ما يتمسك هذا الشعب بمفردات ذاكرته وبجعلها ولَّادة ومتجددة ومتوارثة من جيل إلى جيل ، بقدر ما يكون هذا الشعب محافظاً على هويته وتميزه واستعداداته للعودة الى الحضور المكاني الواقعي ، عندما تنضج عناصر اللحظة التاريخية المؤاتية ، وتسمح الظروف الموضوعية له ، بإزاحة الذين عملوا على تدمير ذاكرته التاريخية الجماعية
، والتحرر من سلطتهم وسطوتهم واحتلالهم لأرضه واغتصابهم لتراثه وتاريخه المكاني والعمراني .
وما جرى في عملية طوفان الأقصى وما تلاها على أرض غزة وغلافها وفي والضفة الغربية ، ليس سوى دليل على ان الذاكرة الشعبية والتاريخية للفلسطينيين ، وبعد ما يزيد على المئة عام من الإبادة الصهيونية الممنهجة لهذه الذاكرة ، فإنها لا تزال هي الذاكرة الأقوى والأصلب والأكثر حضوراً وتأثيراً والأكثر قدرة على البقاء .
لأنها هي الذاكرة الأصيلة والمتجذرة وابنة الأرض الحقيقية ، وما الذاكرة الصهيونية إلا ذاكرة مفتعلة ومختلقة ، ولا تمتلك مقومات الإقناع والإستمرار والتوارث بين الأجيال ، لذلك فإن غزة صارت مُدمَّرة اكثر من عشر مرات خلال قرن ، أي دمار في كل عشر سنوات ، أثبتت أنها هي المنتصرة في معركة الذاكرة ، وهي الأقدر على الحضور والإستدامة ، وان كل الرواية الصهيونية ، وعمرانها وانجازاتها العلمية وتقنياتها ومؤسساتها ومنظوماتها ومتاحفها وفنونها ، لم تستطع الصمود والثبات والتغلب على الذاكرة الفلسطينية ، رغم الفارق الهائل بالموارد ومعدلات الإنفاق لكل فريق من الفريقين على ترسيخ وتثبيت ذاكرته ، ومن هنا يمكننا الإستنتاج أن تاريخ الشعوب يحفظ في افكار وقيم وذاكرة الشعوب ، وما تعبير ودلالة الواقع المكاني والعمراني للتاريخ إلا صورة ، تكتسب معناها الحقيقي وحضورها الفاعل والمؤثر من حضورها في اذهان وعقول الشعب الصانع لهذا التاريخ بكل تفاصيله وأبعاده ومعانيه ، على عكس التاريخ المصطنع والمفتعل والمدعى ، كما هو الحال مع الصهاينة وملهميهم الأوروبيون الذين عملوا على امتهان ابادة الشعوب ونهب ثرواتها ، وعملوا على محو ذاكرتها ، وها هم اليوم يصطدمون بشعب متمسك بذاكرته ، ومستعد للتضحية بكل ما يملك ، لتبقى ذاكرته حية وفاعلة ومؤثرة وحاضرة ، وسيكون النصر بإذن الله لأصحاب الذاكرة الأكثر حضوراً وأكثر قدرة على الإقناع .
ع.إ.س
باحث عن الحقيقة
28/12/2023
تعليقات: