في العام 2023، تألق اسم رياض سلامة في قصر العدل (علي علّوش)
كان التجوّل داخل قصر عدل بيروت طوال عام 2023 شبيهًا بالمرور في حقول الألغام، التي قد تنفجر من دون أي إنذار. القضايا "الحساسة" رُميت بثقلها داخل القضاء اللبناني، من دون خاتمة تحقيقات ولا إنجاز ولا عدالة. فكل المسارات بقيت معرقلة أو مسدودة الطريق. وجميع المعارك القضائية التي تمّ خوضها لشهور طويلة، لم تنته إلى خلاصة أو حكم أو قرار.
كان عامًا مليئًا بالمفاجآت والمواجهات القضائية، وبالكيديات السياسية طبعاً. ولعلّ واقع القضاء اللبناني يُختصر بقضيتين، أو بإسمين فقط: "المحقق العدلي المكفوفة يده طارق البيطار، وحاكم مصرف لبنان السابق، رياض توفيق سلامة".
ملفان حساسان أُبعدت العدالة عنهما، أو بمعنى أدق؛ مُنع تحقيق العدالة فيهما، لأنهما يرتبطان ويلتصقان بالسياسة وبأهل السلطة والقوة.
البيطار والمرفأ
في الأشهر الأولى من العام 2023، عاد القضاة إلى مكاتبهم. انتهى الاعتكاف الأطول في تاريح لبنان، الذي تخطى الخمسة أشهرٍ. حطّت الوفود الأوروبية داخل قصر عدل بيروت، بالتزامن مع "الاجتهاد القانوني" الذي فجّره البيطار داخل القضاء اللبناني، معلنًا عن عودته إلى تحقيقات المرفأ المتوقفة منذ العام 2021.
تصدّرت مواجهة القضاة لبعضهم البعض المشهد القضائي، اتُهم البيطار باغتصاب السلطة، واعتُبر "اجتهاده القانوني" غير قانوني، وانتهى الأمر بالعودة إلى نقطة الصفر. فأخلي سبيل جميع الموقوفين في قضية المرفأ، ورفضت النيابة العامة التمييزية استلام أي مستند أو قرار من المحقق العدلي. ومن بعدها، رُمي الملف بين يدي رئيس محاكم استئناف بيروت، القاضي حبيب رزق الله، المطلوب منه حلّ هذا النزاع وتعيين جلسة استماع للبيطار، ليؤكد بعدها إن كان البيطار مغتصبًا لسلطته أم لا!
توقفت التحقيقات مرة أخرى لأسباب كثيرة، وبقيت الحقيقة والعدالة بعيدتي المنال.
قضية رياض سلامة
في العام 2023، "تألق" اسم رياض سلامة داخل القضاء اللبناني، المتهم باختلاس الأموال العامة، التزوير، استعمال المزور، الإثراء غير المشروع، وتبييض الأموال ومخالفة القانون الضريبي. وبدأت ملاحقته محليًا ودوليًا.
ساعات طويلة قضاها القضاء الأوروبي داخل قصر عدل بيروت، استمع فيها إلى عشرات الشخصيات السياسية والمصرفية، ومن ضمنهم رياض سلامة وشقيقه رجا و"المساعدة المصرفية" ماريان الحويك.
من لبنان إلى فرنسا، وبعد حصول القضاء الأوروبي على الكثير من الوثائق والحسابات المصرفية الخاصة بسلامة، أكمل القضاة الأوروبيون تحقيقاتهم، وانتهى الأمر بإصدار مذكرتي توقيف دولية بحق سلامة، الأولى من القضاء الفرنسي والثانية من القضاء الألماني.
محليًا، كان المسار مختلفًا عن المسار القضائي الأوروبي؛ دخل ملف سلامة في دوامة لا متناهية، بعدما خاصمت رئيسة هيئة القضايا في وزارة العدل، هيلانة اسكندر، قاضي التحقيق الأول الأسبق، شربل أبو سمرا. حُول الملف إلى الهيئة الاتهامية. تجنب الكثير من القضاة متابعة ملفه وتنحوا، وتمكن سلامة من التلاعب بأساليب قانونية ملتوية بملفه، ونجح في تمييع التحقيق وعرقلته، وخاصم أكثر من 18 قاضيًا! عُرقل مسار هذه القضية أيضًا داخل القضاء اللبناني، وبقيت القضية هائمة في المجهول-المعلوم!
فساد "دبلوماسي"
وكان لافتًا، انتقال الفساد من داخل لبنان إلى سفاراته في الخارج؛ فساد تسبب بإقفال السفارة اللبنانية في أوكرانيا، على خلفية قضية اختلاس للمال العام. فُتحت تحقيقات قضائية بالقضية، ولم تصل بعد إلى خاتمة نهائية. ومن انفجرت فضيحة أخرى بعد اتهام السفير اللبناني في فرنسا، رامي عدوان، بجريمة اغتصاب واعتداءات جنسية وممارسة العنف ضد نساء، وحُّول ملفه إلى القضاء اللبناني، بعد إزاحته من منصبه واستدعائه إلى لبنان. ولم يشهد الملف أي تطورات من بعدها.
المحكمة العسكرية
المحكمة العسكرية كانت مسؤولة عن العديد من الملفات الحساسة، كأحداث خلدة (الصدام العشائري المذهبي الدموي) وحادثة العاقبية (مقتل جندي إيرلندي من قوات "اليونيفيل) وغيرها.. فأصدرت حكمها على 36 متهمًا من عشائر خلدة، وتراوحت العقوبات بالحكم عليهم بالسجن بين سنة ونصف السنة وصولًا إلى 10 سنوات، وبحكم الإعدام على المتوارين عن الأنظار، إلا أن التحقيقات التي أجريت سابقًا، لم ينتج عنها توقيف أي عنصر من عناصر حزب الله. وبعد أشهر، اتهمت المحكمة العسكرية 5 عناصر من حزب الله بتأليف جمعية أشرار وبالقتل عمدًا لعناصر اليونيفيل (حادثة العاقبية)، والعقوبة كانت 20 عامًا وصولًا إلى الإعدام.
والمتابع للملفات القضائية بات معتادًا على المفاجآت. فبعد فترة وجيزة، أفرجت المحكمة العسكرية عن المتورط بجريمة العاقبية، بكفالة مالية بلغت ملياراً و200 مليون ليرة لبنانية، "بسبب وضعه الصحيّ الصعب". إذ تبين أنه مصاب بمرض السرطان وبحاجة لمتابعة طبية، حسب ما أُعلن.
ملاحقة القضاة
في عام 2023، انقضّ القضاء على بعض القضاة. فصُرفت النائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان، القاضية غادة عون من الخدمة، بسبب مجموعة من "المخالفات" التي قامت بها سابقًا، ولكنها أصرت على متابعة عملها القضائي، واستأنفت القرار. وأصدرت محكمة التمييز قرارًا بحبس القاضي شادي القردوحي ( الموقوف عن العمل منذ العام 2022) لمدة سنة كاملة، نتيجة "إقدامه علنًا بواسطة وسيلة نشر على توجيه الذم إلى محكمة الجنايات في جبل لبنان".
عودة الأمن
أما في الأسابيع الأخيرة، فقد تبلَّغ القضاة بأن بعض المجموعات الإرهابية ستنفذ عملية لتهريب أحد الموقوفين خلال سوقه من رومية إلى قصر عدل بيروت، وبات واضحًا بأن قصر عدل بيروت يفتقد للعناصر الأمنية ومهددًا بأمنه. وبعد أيام من نشر "المدن" لتقريرها المفصل حول هذه الأزمة وتداعياتها، تغير المشهد أمام "العدلية" بشكل كبير، فانتشرت العناصر الأمنية أمام المدخل الأساسي لقصر عدل بيروت وفي داخله، وخصصت آليات عسكرية لحماية العدلية خلال جلسات المجلس العدلي ولتمشيط المنطقة على مدار الساعة.
أيام قليلة تفصلنا عن انتهاء العام 2023، وما نتمناه اليوم، أن تتحقق العدالة في هذا البلد المنكوب؛ فالعدالة لضحايا تفجير المرفأ، وحدها قادرة على شفاء جراحهم. وكذلك أيضاً لأصحاب الودائع المسلوبة ولغيرهم الكثيرين. هذا يتطلب ثورة حقوقية للمحافظة على استقلالية القضاء ومنع أي تدخل سياسي. بل ثورة أخلاقية وقانونية تعيد السلطة لقوس المحكمة، والهيبة لقصور العدل وأهلها.
تعليقات: