تقنين الغذاء في السجون.. و33 وفاة بالإهمال الطبي

لا طعام للنزلاء والأزمة الاستشفائيّة تستفحل (الأرشيف، سلمان قشمر)
لا طعام للنزلاء والأزمة الاستشفائيّة تستفحل (الأرشيف، سلمان قشمر)


إن كانت الحلّول التّرقيعيّة المقترحة لأزمة المؤسسات العامة، هي حصيلة الفشل المديد في صياغة أي حلّ حقيقيّ وعمليّ وإرساء انتظامٍ عام، فإنّها ومن دون شكٍّ باتت جزئيّة أساسيّة من مأزق هذه المؤسسات المستفحلّ. وما ملف السّجون – المكتظة والمنهارة- سوى عينة لهذا المأزق البنيويّ الذي لم تُعالج جذوره بعد، ولم يؤخذ بالاعتبار حتّى اللّحظة، مغبتّه ووطأته الاجتماعيّة قبل الأمنيّة والقضائيّة.

فحتّى لحظة كتابة هذا التّقرير، لا تزال المفاوضات قائمة، بين وزارة الداخليّة والبلديات والشركات الموردّة للمواد الغذائيّة لمصلحة عدّدٍ من السّجون اللّبنانيّة- وفق مصدرٍ أمنيّ - التّي أعلنت منذ نحو الأسبوع توقّفها واعتبارًا من مطلع العام الجاريّ، عن تزويد السّجون بالمواد الغذائيّة المُقدمة للنزلاء والحرّاس، حتّى تقاضي مستحقاتها الماليّة المتراكمة منذ عام 2020 (أوّج الانهيار الماليّ)، وما يعني بالمقابل تحميل إدارة السّجون مسؤوليّة تقنين مخزونها من الأطعمة، بانتظار الاتفاقيّة أو الحلّ التّرقيعيّ الجديد.


أزمة غذائيّة وصحيّة

في التّفاصيل، فقد وجّهت كل من شركة، "أنطوان بدوي إسكندر"، "ديراني غروب"، "عبدالله غروب"، "مرسال زخيا الدويهيّ"، "هنيدة إلياس إسكندر"، و"برنار الحايك للتّجارة والتّعهدات"، كتابًا إلى المديريّة العامة لقوى الأمن الداخليّ – شعبة الشؤون الإداريّة، بتاريخ 26 كانون الأوّل الفائت، أفادت فيه عم توقفها عن تأمين المواد الغذائيّة لزوم السّجون (طرابلس وزحلة وروميّة وبعبدا للنساء)، بدءًا من 31 كانون الأوّل 202، بسبب انتهاء العمل بمدّة الالتزام من دون وجود أي مناقصة جديدة، وعدم وجود اعتمادات جديدة لتّأمين الأموال اللازمة لاستمرار العمل.

هذا وناهيك بانتفاء أي سبيل قانونيّ لقبض مستحقاتهم (فواتير غير مدفوعة منذ عامي 2020 و2021 ولأربعة أشهر من عام 2022 وفواتير تعديل أسعار لثلاثة أشهر عن عام 2023)، خصوصًا بعدما ألغت وزارة الماليّة الكتاب الذي تقدّم وزير الداخليّة ومدير عام قوى الأمن، لنقل اعتماد من احتياط الموازنة بقيمة 400 مليار ليرة، بذريعة عدم توافر الأموال، بالرغم من موافقة الحكومة عليه.

وهذا الواقع، الذي يفاقم أزمة الأمن الغذائيّ المستفحلّة أساسًا، يضاف إلى أن العديد من الجهات الحقوقيّة فضلًا عن السّجناء أنفسهم، قد تحدثوا سابقًا عن رداءة ما يستهلكه نزلاء السّجون مأكلًا ومشربًا، خصوصًا بازدياد الطلب على الغذاء بارتفاع أعداد المساجين الطرديّ، وانخفاض قدرة المديريّة العامة لقوى الأمن الداخليّ على تأمين مستحقات الشركات المورّدة التّي بدأت تتقاضاها بالدولار الأميركيّ، هي التّي بالأصل بقيت ميزانيتها على حالها وبالليرة اللّبنانيّة. فيما استمرت وزارتيّ الماليّة والداخليّة بالاستجابة للأزمة عبر دفوعات شهريّة للشركات هذه. وبالتّالي، باتت الوجبات التّي تقدم غير صالحة بمجملها للاستهلاك الإنسانيّ.. فيما تمنع إدارة السّجون دخول الأطعمة الخارجيّة غالبًا.

والتّدهور الغذائيّ لا يمكن الحديث عنه بمعزلٍ عن الأزمة الصحيّة والاستشفائيّة الضاربة بجذورها في كل السّجون الممتدة على الأراضي اللّبنانيّة. فبحصيلة 33 وفاة ناجمة عن الإهمال الطبّيّ، انتهى عام 2023، على استمرار هذه الأزمة، المعطوفة على عدم مقدرة القوى الأمنيّة على تسديد نفقات المستشفيات لدى حاجة النزلاء لها، وإضراب الطواقم الطبيّة من ممرضين وأطباء متعاقدين بسبب بدلات الخدمة شبه الرمزيّة وباللّيرة اللّبنانيّة (راجع "المدن"). بينما التّدفئة والطبابة في فصل الشتاء، هي حكر على المبادرات الإنسانيّة التّي ليس بإمكانها سدّ العجز المتراكم في هذا المضمار، فيما يُذكر أن غالبية الوقت، الكهرباء مقطوعة عن الزنازين.


ما الحلّ؟

وتحتجز السّجون اللّبنانيّة حاليًّا عددًا من الأشخاص يفوق طاقتها الاستيعابية بنسبة 323 بالمئة، وتُعزى الزيادة في الاكتظاظ منذ عام 2020 جزئيًا إلى عجز القضاء عن تسيير قضايا المحاكم، في ظل الإضرابات التي يُنفّذها العاملون في النظام القضائي في سياق الأزمة الاقتصاديّة. وتجدر الإشارة إلى أن 79.1 بالمئة من جميع المحتجزين في لبنان (1800 منهم من التّابعيّة السّوريّة) محبوسون حاليًا على ذمة التحقيق. وهي أعلى من نسبة الـ 54 بالمئة التي سجلت عام 2017، وأعلى بكثير من المتوسط العالمّي الذي يتراوح من 29 إلى 31 بالمئة. وقد أدى مزيج من الاكتظاظ الزائد وأوضاع الاحتجاز المزرية إلى تدهور صحة نزلاء السّجون، ومن ضمن ذلك تفشي الأمراض الجلديّة.

لا يرى مدير مركز "سيدار" للدراسات القانونيّة، المحامي محمد صبلوح، أن الحلّ لأزمة الأمن الغذائيّ يكمن في إتاحة المجال أمام أهالي النزلاء في إرسال وجبات يوميّة أو أسبوعيّة لذويهم في السّجون وتأمين المبالغ الماليّة لاستشفاء هؤلاء، لأن هذا الحلّ غير عمليّ وواقعيّ في ظلّ الأزمة الاقتصاديّة الحاليّة، مؤكدًّا أن مسؤوليّة السّجين تقع على عاتق المديريّة ومن ثمّة وزارة الداخليّة ومباشرةً الحكومة، التّي تخاذلت هي وسابقاتها عن إيلاء هذا الملف الاهتمام اللازم. وأشار صبلوح في حديثه إلى "المدن" أن الحلّول تقع على عدّة صُعد مختلفة كالتّالي:

الصعيد التّشريعيّ: اعتبر صبلوح في هذا الإطار أن المُشرّع اللّبنانيّ لا يتعاطى مع السّجين وكأنّه إنسان، مُجرّدًا عنه حقوقه البديهيّة، والحلّ في هذا السّياق ينبثق بقبول البرلمان مقترحات القانون المُعجلّة المُكرّرة التّي طرحها عدّة نواب، لتخفيض السّنة السجنيّة لسّتة أشهر وبالتّالي تتقلص أزمة الاكتظاظ بدايةً (هذا بعيدًا عن مطلب العفو العام).

الصعيد الحكوميّ: وهنا يأتي دور الحكومة، في الابتعاد عن الحلّول الترقيعيّة والتّأجيل المستمر للاستحقاقات، وإيجاد مخرج نهائي للتجاذب الحاصل بين شركات التّوريد والقوى الأمنيّة، بالالتزام بدفوعات إلزاميّة من الموازنة العامة.

الصعيد القضائيّ والأمنّيّ: لا ينفي صبلوح أن القضاء اللّبنانيّ قد بلغ مرحلةً من العجز والتّفقير الممنهج، ما جعل القضاة منهكين. إلا أن المخالفة المستمرة للمهل القانونيّة بمدّة التّوقيف الاحتياطيّ والاحتجاز على ذمّة التّحقيق لسنوات لا يُمكن تبريرها بوصفها احتجازًا تعسفيًّا.

خاتمًا بالقول، إن أزمة السّجون تحتاج قرارًا إنسانيًّا بحقّ هؤلاء، الذين للآن غالبيتهم من دون محاكمات، وهذا ما لا ترتضيه السّلطات السّياسيّة المتواطئة في مشروع نكبتهم.

تعليقات: