قاصران يتعرضان للتعذيب.. والقضاء يتواطأ مع الأجهزة الأمنية

استعصى الحصول على أي ردّ من الجهات المتهمة بالتعذيب (الأرشيف)
استعصى الحصول على أي ردّ من الجهات المتهمة بالتعذيب (الأرشيف)


"العنف في انتزاع الاعترافات"، مصطلح قانونيّ قد يبدو للوهلة الأولى بعيدًا عن الواقع اللّبنانيّ المُعاش، بل يقتصر وحسب على ما نشاهده من التّمثيلات الهوليوديّة للتحقيقات مع كبار المجرمين وأخطرهم على الأمن القوميّ، أو ما نعرفه عن فنون العنف والتّعذيب لدى الأنظمة الديكتاتوريّة كنظام الأسد، والملاليّ، وغيرهما..

إلا أنه وفي الواقع ليس بعيدًا عنا البتة. وبالرغم من تجريمه بموجب كل من اتفاقيّة مناهضة التّعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسيّة أو اللاإنسانيّة أو المُهينة، التّي صادق عليها لبنان عام 2000 إلى جانب بروتوكولها الاختياريّ عام 2008، فضلًا عن القانون 65/2017 الذي أقرّه البرلمان اللّبنانيّ (أيلول 2017). لا يزال واحدًا من النقاط السّوداء المضافة إلى سجل الأجهزة اللّبنانيّة الحقوقيّ، الذي للآن لا يحكم فيها القضاء بالصورة المُعبرة واللائقة، بل يتعاطى معها وكأنها حوادث فرديّة ونادرة. (راجع "المدن").


جرائم التعذيب في السّجون

أما وفي جديد الجرائم المندرجة تحت مظلّة التّعذيب السّلطويّ، علمت "المدن" بتسجيل حالتين جديدتين، في الشهر الأخير من السّنة الماضيّة، ضحيتهما قاصرين، على يدّ كل من شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخليّ ومخابرات الجيش اللّبنانيّ، لا تزال ملفاتهما معلّقة لدى مدعي عام التّمييز غسان عويدات. في حديثه إلى "المدن"، أشار مدير مركز سيدار للدراسات القانونيّة المحامي محمد صبلوح إلى الحالتين، الذي توكل عنهما، شارحًا ملابسات ما حدث، والمسار القضائي المُعرقل للتحقيق بما تعرض له هؤلاء القاصرين.


تحت التعذيب

وفي التّفاصيل، فإن القاصرين هما "أ. ذ." (16 سنة، لبناني، من صيدا – مخيم عين الحلوة) و "ج. ك." (17 سنة، لبناني، من طرابلس) وتحفظت "المدن" عن ذكر اسميهما لحساسيّة الموقف، تمّ اعتقالهما بدايّة شهر كانون الأوّل الفائت. الأول، اعتقل على يدّ مخابرات الجيش اللبنانيّ بغتةً، لدى زيارته والده في عين الحلوة بتهمة التّورط بجريمة قتل "قائد قوات الأمن الوطنيّ الفلسطينيّ محمد العرموشي" على أساس وثيقة اتصال (رديف البحث والتحريّ من دون إذن قضائيّ)، من دون تبليغ أي فرد من أسرته، وبعد عشرة أيام عُلم باقتياده إلى وزارة الدفاع، حيث اتصل بذويه، مخبرًا إياهم بالتّعذيب الذي لحقه أثناء التّحقيق، فسرعان ما نهاه العناصر عن ذلك، ما جعل الأهل يطلبون بملاقاة ابنهم، ومحاولة توكيل المحامي محمد صبلوح لمتابعة مجريات القضيّة.

وبعد متابعة صبلوح للقضيّة، تبين أن القاصر المُحتجز قد حُرم بدايةً من حقة بالاستفادة من المادة 47 المُعدلة من أصول المحاكمات الجزائيّة في التحقيقات الأوليّة، وجرى التحقيق معه من قبل مخابرات الجيش من دون وجود وكيل قانونيّ أو وصيّ (بحكم أنّه قاصر)، فيما تمّ نقله لاحقًا إلى المحكمة العسكريّة، وتمّ التّحقيق معه من قبل قاضي التحقيق فادي صوان مجدّدًا، من دون وجود وكيل ولا وصيّ (بوجود مندوبة أحداث وحسب). وسرعان ما علم صبلوح بهذا الأمر، وتقدم أمام صوان، بتقرير أفاد فيه عن تعرض القاصر لتعذيب أثناء التحقيق عارضًا عليه الكدمات المنتشرة في كل أنحاء جسده والحروق التّي نجمت بفعل دسّ أعقاب السجائر المشتعلة في جسده. إلا أن القاضي وبحسب صبلوح لم يفتح تحقيقًا بالموضوع، ولم يباشر بأي إجراء قانونيّ وضمنًا تعيين طبيب شرعيّ بمهلة أقصاها 48 ساعة عن التّبليغ بجريمة تعذيب.

والتّعنيف ذاته طاول الضحيّة الثانيّة "ج. ك."، الذي تعرض نوع التّعذيب نفسه – كما أشار صبلوح الذي توكل إلى جانب وكيلته القانونيّة نورمان حلاوة – على يدّ شعبة المعلومات التّي اعتقلته بتهمة محاولة الانتماء إلى تنظيمٍ إرهابيّ وجرى نقله إلى سجن روميّة، حيث أبلغ ذويه بالتّعذيب الذي تعرض له، وقد جرى التّحقيق معه أيضًا من دون محاميّ أو وصيّ.


مخالفة الأصول القانونيّة

والحالتان آنفتا الذكر، قد رصد من خلالهما، عدّة أنماط من مخالفة الأصول القانونيّة، ناهيك بجرائم التّعذيب الموصوفة والتّي لم يتمّ تعيين طبيب شرعيّ للكشف على أجساد الضحايا، بدايةً بالتحقيق مع قاصرين من دون وجود أي من الأوصياء عليهم أو وكلاء قانونيين، وفقط بوجود مندوبي أحداث، وثانيًّا بالتحايل على القانون وعدم تفسير المادة 47 لهم، أكان بالحقّ بالاتصال، وتوكيل محام والتزام الصمت حتّى وصول الوكيل القانونيّ، وخصوصًا أن المعتقلين هما من القاصرين، ويُعد عدم شرح حقوقهم، تجهيلًا مقصودًا.

وكل هذه المعطيات دفعت بالمحاميين للتقدم أمام النيابة العامة التّمييزيّة بشخص المدعي العام غسان عويدات، وبتاريخ 12 كانون الأوّل 2023، بشكوى تعذيب بحقّ القاصرين، ذيلها صبلوح بعبارة "آن الأوان وبختام رحلتك القضائيّة أن تعطينا قرارًا جريئًا لأول مرّة في التاريخ في قضية تعذيب"، إلا أن المدعي العام لم يفتح تحقيقًا ولا يزال الملف المستعجل وبعد شهر، قيد النظر، بالرغم من حساسيّته والمهلة القانونيّة لتعيين طبيب شرعيّ. وبهذا يختم المدعي العام عويدات، الشهر الأخير من وظيفته كقاضٍ بعرقلة المزيد من الملفات الحقوقيّة.

يُذكر أنه استعصى الحصول على أي ردّ من الجهات المتهمة بتعذيب هذين القاصرين.


خطّ ساخن للمحامين

وأكدّ صبلوح أنّه سيتابع القضيّة حتّى تحقيق العدالة لهؤلاء، معتبرًا أن القضاء متواطئ في انتهاج الأجهزة الأمنيّة ثقافة العنف، لأنه لم يقم ومنذ سنوات بأي إجراء يمنع هذه الأجهزة من التّصرف بحريّة في هذا السّياق. وهذا ما تجلى علانيّة في قضية الضحية بشار عبد السعود الذي قضى متأثرًا بالتّعذيب الذي لحقه أثناء التحقيق. وعليه أطلق مركز سيدار للدراسات القانونيّة، خطًّا ساخنًا للمحامين للتبليغ عما يرصدونه من انتهاكات في هذا المضمار.. للتذكير، أنه وبالرغم من كل الانتهاكات والتجاوزات، لا تزال هناك أعينٌ مراقبة وراصدة لكل مخالفة.

تعليقات: