لا تعاون رسميّ من قبرص ولا مؤشرات في البحر عن غرق المركب(المدن)
فجر الثلاثاء، الثاني عشر من كانون الأوّل الفائت، وتحديدًا عند السّاعة الثانيّة و40 دقيقة بعد منتصف اللّيل، انطلقت من الشواطئ الطرابلسيّة – شمال لبنان، أربعة قوارب هجرة غير شرعيّة، أو كما يُصطلح على تسميتها محليًّا بـ"قوارب الموت"، ناقلةً على متنها حوالي 260 راكبًا تتنوع جنسياتهم بين السّوريّة واللّبنانيّة والفلسطينيّة، ومن مختلف الفئات العمريّة. وبعد نحو العشر ساعات (الثالثة عصرًا) وصلت ثلاثة منها إلى الشواطئ القبرصيّة، فيما لم يصلّ الرابع، واختفى أثره كليًّا.
أما اللافت للإنتباه، فإنّه حتّى اللحظة، وبالرغم من الضغط الإعلاميّ والحقوقيّ المحليّ والدوليّ، لم يتبين أي مُعطى جديّ عن مصير هذا المركب المفقود ولا مصير أولئك الذين على متنه، بينما تبقى السّيناريوهات والفرضيات رهن الحراك الدبلوماسيّ المشترك بين الجانبين اللّبنانيّ والقبرصيّ (كما جرت العادة)، فضلًا عن التّعاون الحقوقيّ الدوليّ، لمعرفة موقع المركب المفقود والتّأكد من سلامة ركابه.
عن 85 راكباً مفقودين
وفي التّفاصيل، علمت "المدن"، أن المركب المفقود كان يحمل 85 راكبًا من الجنسيتين اللّبنانيّة والسّوريّة، من النّساء والرجال من مختلف الأعمار، وبينهم 35 طفلًا، وطاقم القيادة من الجنسيّة اللّبنانيّة، وقد اختفى لحظة تجاوزه المياه الإقليميّة، إذ انقطع التّواصل كليًّا مع الركاب عند السّاعة السّادسة صباحًا، أي بعد نحو ثلاث ساعات على إبحارهم، فيما لم يبقَ من أثرهم إلا ما خلا مقطع فيديو قصير التقطه أحد الركاب.
وبعد مدّة زمنيّة وجيزة على اختفاء المركب، قامت منظمة Alarm Phone أو "هاتف الإنذار" (وهي منظمة تُعنى بالتبليغ عن راكبي القوارب الواقعين في محنة ضمن نطاق البحر المتوسط)، بالتّواصل مع مركز "سيدار" للدراسات القانونيّة، معتقدةً أن المركب المختفي قد وصل قبرص، وما لبث أن اطلق نداءً بشخص مديره المحامي محمد صبلوح، داعيًّا ذويّ الركاب للتّواصل الفوريّ مع المركز والمساهمة بأي تفاصيل لكشف ملابسات القضيّة.
ولدى المتابعة والتقصيّ، تمكن فريق عمل "سيدار" من جمع المعلومات الأوليّة عن جزء لا يُستهان به من الرّكاب (غالبيتهم من الجنسيّة السّوريّة)، فيما كان الصادم إحجام الأهالي من الجنسيّة اللّبنانيّة عن التّبليغ. وقُدمت بموجب هذه المعلومات شكوى أمام الفريق المعنيّ بالاختفاء القسريّ لدى الأمم المتحدة في جنيف، ضدّ الجانب القبرصيّ (قبرص اليونانيّة وقبرص التّركيّة) لحثه على تزويدهم بالمعلومات، من دون الحصول على أي إجابة واضحة منهم، بالرغم من وعود الأمم المتحدة.
والمرجح أن أهالي المفقودين اللّبنانيين وتحديدًا طاقم القيادة والقبطان، لم يتقدموا بأي معلومات خشيّة أن يتمّ توقيفهم وترحيلهم إلى لبنان (في حال إيجادهم)، وبالتّالي تجري محاكمتهم وفق القوانين اللّبنانيّة بجرم الاتجار بالبشر، بحسب مدير عام مركز "سيدار"، فيما جزم أن بعض الأفراد يقومون أصلًا بإتلاف سجلاتهم وأوراقهم الثبوتيّة والادعاء بأنهم من اللاجئين السّوريّين، للاستفادة من صفّة اللاجئ في أوروبا.
إخفاء معلومات، وتحرّك حقوقيّ
مضت عدّة أيام ووتيرة البحث عن المركب على حالها، من غير أن يكون هناك أي معطيات إضافيّة أو تعاون رسميّ من قبرص، وسط تفاقم هلع ذويّ المفقودين من غرق أبنائهم في عرض البحر. وقد قامت "سيدار" وعدّة منظمات حقوقيّة وأمميّة أخرى، بمراسلة الدول المحيطة والتّي من الممكن أن يكون قد وصل المركب إلى شواطئها، أو عثرت على أي مؤشرات لغرقه (بحيث تطفو الجثث وترسو على هذه الشواطئ)، وسرعان ما نفى خفر سواحل هذه الدول وصول أي مركب أو أفراد إلى الشواطئ. ما يطرح ثلاثة سيناريوهات، وفق صبلوح:
"الأوّل: غرق المركب، إلا أن عدم ظهور مؤشرات حقيقيّة لغرقه كوجود جثث أو حطام المركب، يجعل هذه الفرضيّة حتّى اللحظة غير واردة.
الثّاني: وهو أن المركب لا يزال تائهًا في المياه الإقليميّة، لكن وبعد أربعة أسابيع تقريبًا على انطلاقه، ييدو هذا السّيناريو شبه مستحيل، أكان بسبب المؤن الغذائيّة القليلة والتّي لا تكفي 85 شخصًا على مدّة شهر، ناهيك باحتياطيّ المحروقات.
الثالث: وصول المركب بالفعل إلى قبرص، إلا أن الجانب القبرصيّ لا يُريد الإفراج عن الموقوفين حاليًّا، وهذا الوارد جدًا، خصوصًا بعد أن تلقى بعض الأهالي اتصالات من ابنائهم، أفادوا فيها عن اعتقال قوات الأمن القبرصيّ لهم فور وصولهم".
وإزاء هذه السّيناريوهات الثلاثة، أشار صبلوح في حديثه إلى "المدن" أنّهم تقدموا إلى النيابة العامة التّمييزيّة بشكوى اختفاء قسريّ متوكلًا عن ذوي المفقودين، وذلك بغيّة استخراج "داتا الاتصالات" وتحديد موقعهم أو آخر موقع كانوا فيه. إلا أن الشكّوى للآن لم يتمّ البت بها. وعمد الوكيل القانونيّ للأهالي، بالتّواصل أيضًا مع وزير الخارجيّة وأرجأ التّدخل الرسميّ حتّى الأسبوع المقبل. (يُذكر أن مصادر "المدن" في الوزارة أكّدت هذا الموضوع، من دون أي تفاصيل إضافيّة). وقد تقدمت المفوضيّة السّاميّة لشؤون اللاجئين في لبنان بمراسلة لقبرص من دون أن تحظى برّد.
قوارب "الموت"
دفع هذا الواقع بالمنظمات إلى التّوجس من تعاطي السّلطات القبرصيّة، التّي شدّدت مؤخرًا إجراءاتها ضدّ اللاجئين السّوريين تحديدًا (راجع "المدن") وكل ما يتعلق بقوارب الهجرة غير الشرعيّة التّي تصل شواطئها. هي التّي جرّت العادة أن تعيدهم فورًا، كما تقضي الاتفاقية الثنائيّة التّي وقعتها الدولة- الجزيرة مع لبنان عام 2004، التّي ألزمت لبنان بوقف العبور الحدوديّ غير الشرعيّ والهجرة غير الشرعيّة للأفراد من لبنان. وفي حال تحقق السّيناريو الأخير، فإن قبرص ستكون في معرض المساءلة القانونيّة والحقوقيّة للإخفاء القسريّ للأفراد.
هذه القضيّة بكل ما يُحيط بها من ملابسات، تُعيدنا إلى نقطة مفصليّة تتجاوز واقع تفاقم ظاهرة الهجرة غير الشرعيّة (راجع "المدن")، وتصدير لبنان للمهاجرين من مواطنيه ومن اللاجئين السّورييّن (دولة عبور نحو أوروبا)، وترتبط بواقعٍ أمنيّ متدهور وواقعٍ قضائيّ وسياسيّ وديبلوماسيّ سمتّه التخاذل عن أداء أدواره الأساسيّة، وإيجاد حلّول حقيقيّة لكل من ملفي اللجوء السّوريّ والهجرة غير الشرعيّة وغيرها من القضايا الطارئة. حتى يكاد يبدو خيار الغرق في البحر أكثر "منطقيّةً" من البقاء.
تعليقات: