في خطوة نوعية تمثل ثورة جديدة في عالم الاتصالات تنطلق الى الفضاء يوم الجمعة صباحاً بتوقيت بيروت مجموعة جديدة من الأقمار الاصطناعية لشركة "ستارلينك" تضم بينها 6 أقمار صناعية تعمل مباشرة عبر الهواتف الذكية التي بحوزة مشتركي شبكات الخليوي دون الحاجة لأي تعديل في هذه الأجهزة ودون ربطها بأي أجهزة إضافية أو صحون لاقطة. وتالياً تصبح أجهزة الهاتف الخليوية التي نستعملها في حياتنا اليومية قادرة على الاتصال بالفضاء الخارجي عبر الأقمار الاصطناعية العائدة لـ"ستارلينك".
فقد وافقت "الهيئة الفيديرالية للاتصالات" الاميركية أخيراً لشركة "ستارلينك" على إجراء تجارب على اتصالات عبر الأجهزة الهاتفية الفردية مباشرة مع الأقمار الصناعية، وذلك بالشراكة مع الشركة المشغلة للخلوي "تي موبايل" الأميركية. وبعد تأجيل إطلاق الأقمار الصناعية منذ أسبوعين بسبب العوامل الطبيعية، ستطلق الشركة الأم لستارلينك "سبايس أكس" 21 قمراً صناعياً صباح غد الجمعة بتوقيت بيروت من ضمنها 6 أقمار صناعية للتواصل المباشر مع الأجهزة الخليوية. بعبارة أخرى ستعمل هذه الأقمار الصناعية كأبراج خليوية في الفضاء الخارجي، وذلك بدل المحطات الخليوية المنتشرة على أسطح الأبنية والأبراج في المدن والمناطق المترامية في جميع أنحاء الكرة الأرضية. وتالياً، في حال عدم وجود تغطية خليوية في مكان ما، يتصل الجهاز بين يدي المشترك مباشرة بالقمر الصناعي لإجراء الاتصال. المرحلة الأولى ستشمل الرسائل القصيرة تليها المخابرات الهاتفية ومن ثم البيانات.
يمكن لـ"ستارلينك" مستقبلاً أن تقدّم الخدمة بنفسها من خلال التقدم بطلب ترخيص من الجهات المختصة في مختلف البلدان، إلا أنه لا بد بداية من أن تدخل شركة "ستارلينك" في شراكة مع مختلف مشغلي الخليوي لتقديم هذه الخدمة.
فهل أصبح لبنان جاهزاً للدخول في شراكة مع "ستارلينك" لتقديم خدماتها على الأراضي اللبنانية بطريقة تحفظ حقوق الدولة اللبنانية والخضوع لقوانينها؟ وهل توقفت المفاوضات مع الشركة بعدما رفض مجلس الوزراء الموافقة على إدخال أجهزة "ستارلينك" إلى لبنان في إطار خطة الطوارئ.
لا يخفي وزير الاتصالات جوني قرم أن المفاوضات متوقفة حالياً مع شركة "ستارلينك"، "لسوء الحظ كلما حاولنا التقدم خطوة الى الأمام، يعيدوننا لسبب أو لآخر خطوتين الى الوراء".
ليس خافياً أن دخول "ستارلينك" أو أي مثيل لها يقدم خدمات الإنترنت ممكن ولا عوائق لوجستية أو بشرية تمنع ذلك، فالبلاد تزخر بالطاقات العلمية والخبرات السيبرانية والاتصالات، لا بل تملك فائضاً منها. لكن الدرب الى السوق اللبنانية لا يمر بالتوافق مع وزارة الاتصالات و"أوجيرو" والتعاقد معهما أو عبرهما مع المشتركين فحسب، بل بالمعبر الأمني الضروري والإلزامي، مع ما يتطلب ذلك من موافقة للأجهزة الأمنية للسماح للبنانيين بالولوج الى شبكة إنترنت من خارج السنترالات والشبكة اللبنانية.
من هنا يؤكد قرم أنه يتريّث في المباشرة بالمحادثات التجارية، في انتظار موافقة القادة الأمنيين على التعامل مع الشركة، علماً بأننا "حصلنا على موافقة اللجنة الأمنية المكلفة بمتابعة الموضوع، على القيام بفترة تجريبية لمدة 3 أشهر على نحو 150 جهازاً قدمت للوزارة من دون مقابل، ولكن مجلس الوزراء رفض الهبة. كذلك كان الاتفاق مع "ستارلينك" أن يزوّدونا بتقارير عن كل المعلومات التي طلبتها الأجهزة الأمنية، حتى إننا أمّنا التواصل بين ستارلينك والأجهزة الأمنية لإيجاد صيغة نهائية ترضي الطرفين لتنفيذها، فيما كان أحد الاقتراحات أن تعمد ستارلينك الى وضع ISP (internet service provider) في لبنان وتضع المركز (HUB) في لبنان لكي يتاح للأجهزة الأمنية المراقبة الكاملة.
بالنسبة للكلفة، جدد قرم تاكيده أن الكلفة "صفر" على الدولة اللبنانية، حتى إن الاتفاق مع "ستارلينك" أن تدفع الشركة رسوماً ثابتة إضافة الى حصة للوزارة عن كل مشترك، وكنّا نتفاوض على القيمة. وكان أمامنا خياران: الاول أن تدفع الشركة مليون دولار ثمناً للرخصة إضافة الى مبلغ معيّن عن كل مشترك، أو أن تدفع 500 ألف دولار للرخصة إضافة الى مبلغ أكبر عن كل مشترك يصل الى 30 دولاراً فيما تحصل الشركة على 100 دولار، بما يعني أن الاشتراك سيصل الى نحو 130 دولاراً. وهذا يعني أن اشتراكات ستارلينك ليست للعامة، بل للشركات أو في المناطق التي لا تصل إليها شبكة الدولة، وتالياً لن تنافس "أوجيرو".
ولكن مصادر في قطاع الاتصالات تؤكد أن "أسعار السرعات العالية في لبنان تقارب لا بل تتخطى أسعار "ستارلينك" لذلك ستتنافس "ستارلينك" و"أوجيرو" بالتأكيد على هذه الشريحة الكبيرة من السوق اللبنانية، وما دامت "أوجيرو" لا تملك القدرة إطلاقاً على تأمين خدمة السرعات الفائقة عبر الألياف البصرية في مناطق واسعة من لبنان، فستستغل "ستارلينك" هذا الوضع الشاذ لتسيطر سيطرة كاملة على السوق اللبنانية".
الى ذلك، يؤكد خبير في قطاع الاتصالات أن "ستارلينك" تعمل من خلال محطة أرضية، فالاتصال المباشر بين الجهاز الفردي والأقمار الاصطناعية يعود وينتقل من الأخيرة الى المحطة الأرضية. ومن خلال هذه المحطة يتم تأمين الانترنت للمتصل من خلال إعادة التواصل مع القمر الاصطناعي الذي بدوره يعيد الاتصال الى المتصل الأساسي. هذه المحطة الأرضية العائدة لـ"ستارلينك" يجب إنشاؤها على الاراضي اللبنانية، إذ ثمة محطتان فقط للشركة في منطقة الشرق الاوسط واحدة في تركيا والاخرى في سلطنة عمان، ولذا ثمة ضرورة لمفاوضة الشركة لإنشاء محطة ثالثة أرضية في لبنان، علماً بأن الشركة عليها زيادة محطاتها الارضية بالتوازي مع زيادة عدد مشتركيها.
ولكن الوزير قرم يوضح أن "ستارلينك" ليست في حاجة الى تركيب محطة أرضية، بل يمكن للمشترك شراء جهاز صغير يمكن من خلاله التقاط الخدمة عبر الساتلايت، مؤكداً أن "ستارلينك" متحمسة جداً لدخول السوق اللبنانية، على الرغم من أن المفاوضات استغرقت وقتاً طويلاً لموافقة الشركة على أن تكون حصرية التعامل مع وزارة الاتصالات.
وتؤكد المصادر عينها أن "لبنان يكاد يكون البلد الوحيد في العالم الذي يمكن لشركة "ستارلينك" أن تقدم فيه خدماتها بصورة فورية لعدد كبير من المشتركين المحتملين، وذلك بسبب عدم انتشار خدمات الألياف البصرية للمشتركين سوى في أماكن محدودة جداً، وغياب كامل لشبكات الجيل الخامس للهاتف الخليوي. إضافة الى ذلك، وهذه هي النقطة الأهم، وبالرغم من الأزمة المالية التي يمر بها لبنان، لا تزال لدى اللبناني قدرة على دفع مبالغ مالية جيدة لقاء الخدمات الهاتفية وخدمة الإنترنت السريع مقارنة مع بقية الدول التي لا تنتشر فيها شبكات الألياف البصرية وشبكات الجيل الخامس في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية".
وتعتبر أن "الدول التي لديها شبكات ألياف بصرية وخدمات الجيل الخامس مثل الدول الأوروبية أو دول الخليج العربي هي ليست أولوية لشركة "ستارلينك" إلا في بعض الأماكن النائية أو الجزر أو المنصّات البحرية لاستخراج النفط، لأن انتشار الشبكات الارضية في هذه الدول لا يحفز "ستارلينك" لتقديم خدماتها. كما يجري التداول بخبر ممزوج بين الجدية والمزاح أن "ستارلينك" لم تستطع أن تبيع سوى اشتراك وحيد لرئيس دولة عربية منحتها رخصة لتقديم خدماتها أخيراً، لأن جميع المواطنين والزائرين لديهم اشتراكات في خدمات الألياف البصرية والجيل الخامس للخليوي".
إذن، ما يهم شركة "ستارلينك" الصاعدة (لديها عدد مشتركين يزيد قليلاً عن مليوني مشترك) ليس الدول الغنية التي لديها شبكات اتصالات متقدمة، ولا الدول الفقيرة كبعض الدول الأفريقية التي لا تستطيع دفع كلفة خدماتها، بل الدول التي ليس لديها تغطية جيدة من الشبكات الأرضية ومتعطشة لخدمات الإنترنت الفائقة السرعة ولديها القدرة على الدفع لقاء هذه الخدمات، وهنا قد يكون لبنان المثال الوحيد لذلك.
في المحصلة، ووفقاً لمقولة "مصائب قوم عند قومٍ فوائد"، "مصائبنا" لجهة عدم وجود شبكات الجيل الخامس في لبنان وعدم وجود شبكة ألياف بصرية منتشرة على كامل الأراضي اللبنانية هي بالتحديد "الفوائد" لشركة "ستارلينك" لتقديم خدماتها. لعل وزارة الاتصالات اللبنانية تدرك أهمية السوق اللبنانية للاتصالات بالنسبة لشركة "ستارلينك"، وتتفاوض مع الشركة على هذا الأساس، وإلا فقد يأتي النموذج التجاري لإدخال خدمات "ستارلينك" الى لبنان ليضيف "مصيبة" جديدة على "مصائبنا" في قطاع الاتصالات من خلال سيطرة احتكارية لشركة خاصة عالمية وضرب مستقبل المشغّل الوطني "ليبان تلكوم" في المهد.
تعليقات: