نضال طويل وقاس توِّج بطرد المحتل الاسرائيلي من الجنوب عام 2000
ثقافة المقاومة متجذّرة في جبل عامل منذ قرون رغم معاناته الطويلة من الدولة التركية وسياستها المذهبية وحكم الأسر الإقطاعية التي أدّت إلى فروقات طبقية هائلة في المجتمع. لنعد فقط إلى عهد الوالي العثماني أحمد باشا الجزار (1734 - 1804) الذي حكم بلاد الشام بالحديد والنار، وسحق الثورات والانتفاضات التي نشأت ضده في لبنان وفلسطين وسوريا وصولاً إلى طردهم للمحتل من الجنوب عام 2000، وإلحاقهم الهزيمة به عام 2006
ما إن انطلقت غزة في مواجهة العدوّ الصهيوني الغاصب، حتى تعرّض جنوب لبنان لكثير من الافتراءات على وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي من قبل مجموعة من الجاهلين والمنافقين. فهذا الذي يستهزئ بدور المقاومة اللبنانية في الحرب، ويزعم أنها خائفة ومنهزمة، وذاك الذي يندب حظّه لعدم انصياعها لمخططاته وأحلامه العسكرية، وهو لم يذق يوماً طعم القتال، ناهيك بأولئك الذين يدّعون أن المقاومين مأمورون من الخارج، وهم لا يعرفون شيئاً عن أهل جبل عامل أو يتجاهلون تاريخهم العريق في النضال وطردهم للمحتل من الجنوب عام 2000، وإلحاقهم الهزيمة به عام 2006. والأعجب من ذلك أن تلك التعليقات تأتي من أشخاص لم تقدّم أحزابهم وحكوماتهم شيئاً لنصرة المقاومة الفلسطينية، بل كانوا خنجراً مسموماً في ظهرها.
إن ثقافة المقاومة متجذرة في جبل عامل منذ قرون رغم معاناته الطويلة من الدولة التركية وسياستها المذهبية وحكم الأسر الإقطاعية التي أدّت إلى فروقات طبقية هائلة في المجتمع. لنعد فقط إلى عهد الوالي العثماني أحمد باشا الجزار (1734 - 1804) الذي حكم بلاد الشام بالحديد والنار، وسحق الثورات والانتفاضات التي نشأت ضده في لبنان وفلسطين وسوريا. عندما حكم الجزار ولاية صيدا، حاول فرض سيطرته على جبل عامل بالقوّة والعنف، وجنّد الشباب العاملين في جيشه وأرسلهم إلى الحروب البعيدة، وفرض الضرائب والرسوم الثقيلة على الفلاحين والمزارعين الصغار، واستولى على أراضيهم وممتلكاتهم، وأقام معسكرات في قراهم، وأسكن المرتزقة وشذاذ الآفاق في منازلهم، وقتل كل من خالفه أو ناهضه وسجنه وعذّبه ونكّل بالعلماء، ما اضطرهم إلى الهجرة إلى إيران والحجاز والعراق وغيرها من البلدان. كما صادر كل الكتب والمخطوطات الثمينة في مكتبات جبل عامل التي تمثل العصارة الفكرية للنهضة العلمية التي شهدتها البلاد منذ عهد الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي الجزيني الذي أُعدم في دمشق عام 1384، ونقلها إلى عكا لتتحول إلى وقود لأفرانها لمدّة أسبوع. قاوم أهل جبل عامل الجزّار بشجاعة، ونظموا حركات ثورية عُرفت باسم «الطياحة»، وهي كلمة عاملية تعني المناهضة أو المقاومة. استخدم العامليون أساليب حرب العصابات والكمائن والغارات والهجمات المفاجئة على الجيش العثماني ومرتزقته، وألحقوا به خسائر فادحة في الأرواح والمال. وقد برز اسم الشيخ ناصيف النصّار العاملي الوائلي الذي تحالف مع الشيخ ظاهر العمر في فلسطين لمواجهة العثمانيين، وأصبح أحد رموز المقاومة في الجنوب، وقد استشهد في معركة يارون عام 1781 بعدما خرج برفقة 700 فارس من جنوده من قلعة تبنين التي كانت مقراً له لمقابلة جيوش أحمد باشا الجزار المدعومة بآلاف من جنود الانكشارية التركية. بعد استشهاد النصّار، استمرت حركة الثوار في التصدّي للوالي وجنوده ولم تستقر الأحوال في جبل عامل إلا بعد مصرع الجزّار وموافقة الوالي الجديد سليمان باشا على سحب العساكر التركية من المنطقة. أظهرت حركة الطياحة روح المقاومة والصمود والتضحية لدى أهل جبل عامل، كما خلقت نهجاً ثورياً، استمر وهجه إلى الأجيال اللاحقة، وظهر بوضوح في مواجهة الانتداب الفرنسي ثم الاحتلال الإسرائيلي وكلّ المشاريع الهادفة إلى تقسيم لبنان والمنطقة.بعد أفول الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، ظنّ العامليون أنّهم سيحظون أخيراً بدولة عربية تحقّق لهم العدل والازدهار، وسارعوا إلى تأييد قيام الملكية العربية في سوريا، ولكن تبيّن في ما بعد خداع الدول الكبرى واقتسامها للمنطقة وفقاً لاتفاقية سايكس بيكو التي نصّت على إعطاء لبنان وسوريا لفرنسا، والعراق وفلسطين لبريطانيا، فتألّفت عصابات ثورية في جبل عامل لمقاومة الانتداب الفرنسي. في عام 1920، عُقد مؤتمر «وادي الحجير» الشهير عام 1920 برئاسة السيد عبد الحسين شرف الدين للمطالبة بوحدة لبنان وسوريا وفلسطين في إطار حكم عربي وطني. وعندما جوبهت هذه المطالب بالرفض، اشتدت هجمات الثوار بقيادة أدهم خنجر وصادق حمزة الفاعور على القوات الفرنسية وكبّدوها خسائر جسيمة. أرسل الجنرال غورو حملات تأديبية إلى جبل عامل بحجة حماية المسيحيين، مغتنماً حادثة عين إبل المشؤومة (أيار 1920) وفرض غرامات مالية ذهبية على أهله وحكم على الثوار بالإعدام. هذه الأحداث تثبت أنّ جبل عامل لم ينكسر أمام الغزاة ولم ينسَ تاريخه وهويته الأصيلة وتمسّك بانتمائه العربي وواجه الاستعمار، رغم محاولات الفرنسيين زرع الشقاق بين العامليين والعرب مستغلين الاختلاف المذهبي لتأليبهم ضد الحكومة العربية في دمشق.
رفض العامليون وعد بلفور وشاركوا أهل فلسطين في المواجهات واستشهد عدد منهم
كان العامليون أيضاً سبّاقين في رفض وعد بلفور (1917) وما تلاه من قرارات دولية تعسفية بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية (1947)، ولم يكتفوا بالتظاهرات والإضرابات لمؤازرة فلسطين، بل شاركوا أهلها في المواجهات واستشهد عدد منهم. كذلك دعا العلماء والأدباء العامليين إلى الجهاد قبل أن تضيع الأرض إلى الأبد ومنهم الشيخ أحمد رضا وسليمان ظاهر والسيد محسن الأمين وأحمد عارف الزين صاحب مجلة «العرفان» الشهيرة والشاعرة زهرة الحر والشاعر فؤاد جرداق والشيخ محمد جواد مغنية وغيرهم الكثير. رأى هؤلاء الأدباء أنّ القوّة هي السبيل الوحيد لاستعادة الأرض المسلوبة، فنسمع الشاعر موسى الزين شرارة يقول في قصيدته «السّيف للسّيف»:
ضاع الجليلُ ولم يسلمْ لنا النقبُ/ واللدُّ ضاعت ونحن السّادة العربُ
جدودنا أُسُداً كانوا فكم فتحوا/ أرضاً وكم قهروا جيشاً وكم غلبوا
متى أراكم وقد كرّت جحافلكم/ وقيلَ للثّأر هبَّ العُرْبُ أو وثبوا
السيفُ للسّيف لا شعر يفيد إذا/ قال المثقّف في الهيجا ولا خُطب
هكذا نرى أنّ أهل الجنوب آمنوا بالقومية العربية، وعانقوا فكرها، وسطّروا بدمائهم تاريخها. واليوم، يتألمون لما يحلّ بإخوانهم في غزة من محن ومصائب، فلا يبخلون عليهم بالدعم والمساندة، ولا يتأخرون عن تقديم الفداء والشهادة في سبيلهم، لأنهم يعلمون أن هذا حق وواجب. اليوم الجنوب يواجه حرباً شرسة، فقراه وبلداته تتعرض يومياً للقصف، والآلاف من أبنائه قد نزحوا عن ديارهم، واقتصاده قد تعطّل وتدهور، وأراضيه ومزروعاته قد احترقت. مع ذلك، يرنو الجنوب إلى غزة في مصابها ويفتخر بمقاومتها التي صنعت نصراً تاريخياً طال انتظاره.
تعليقات: