يوميات العيش في الضاحية: أن نأكل منتجات سوريا وإيران

التّبدل التّدريجيّ للأنماط الثقافيّة والاجتماعيّة للسّوق المُصغر (Getty)
التّبدل التّدريجيّ للأنماط الثقافيّة والاجتماعيّة للسّوق المُصغر (Getty)


أقبيّةٌ أرضيّة شبيهة إلى حدٍّ بعيد بمخازن البيع بالجملة أو "wholesaling"، مئات الرفوف الحديديّة التّي رُصّت عليها البضائع من مختلف الأصناف الاستهلاكيّة (الغذائيّة والإلكترونيّة والملابس، وصولًا للأدويّة وحليب الأطفال واللّحوم والأجبان) المُستوردة من سوريا وإيران والهند وتركيا، فضلًا عن تلك المصنّعة محليًّا. اجتماعٌ بشريّ ضخم، ازدحام وطوابير من الواقفين. حملة بطاقة "حسومات السّجاد" بانتظار دورهم. بضائع معبأةٌ في أكياسٍ بيضاء من غير أي علامةٍ تجاريّةٍ مطبوعة عليها، يحملها السكّان إلى سيارتهم ومنازلهم.

"تعاونيات السّجاد"، "مخازن النور"، "ملك التّوفير" وغيرها من المتاجر المنتشرة على امتداد الضاحيّة الجنوبيّة لبيروت، افتتحت أو توسعت وزادت شعبيتها بعد شهورٍ قليلة من تأجج الأزمة الاقتصاديّة في البلاد، مطلع العام 2020، أكان كتقديمات اجتماعيّة من حزب الله لمناصريه أو حتّى مبادرات شعبيّة غايتها الإحسان والتّعاضد الاجتماعيّ، التّي يقصدها الآلاف يوميًّا لشراء السّلع وبديهيات العيش بأسعارٍ مخفضة بنسبةٍ عاليّة (تتراوح بين 20 و60 بالمئة) عما هو معروض في السّوق اللّبنانيّ.

وكما في السّياسة كذلك في الأكل والطعام، الانقسام اللبناني السّياسيّ بين الولاء لمحور الممانعة أو مخاصمته، يتجلى أيضًا في استيراد البضائع واستهلاكها، وبما يتجاوز ذلك إلى تأليف دورة اقتصادية مستقلة عن الاقتصاد الرسمي.


تعاونيات استهلاكيّة

"بات لديّ خبرة في شراء المنتجات الأفضل؛ صحيحٌ أن بعض السّلع جودتها رديئة مقارنةً بما كنا نستهلكه قبل الأزمة، لكن تدهور أوضاعنا المعيشيّة وانخفاض قيمة دخل زوجي، فرض عليّ تنظيم أولوياتي المنزليّة بصورةٍ تجعل تأمين وجبة غذاء لأطفال تكفيهم من الناحيّة الغذائيّة أهم من مذاقها أو جودتها"، تسترسل سمر في حديثها إلى "المدن"، وهي أمٌّ وربّة منزل ثلاثينيّة، تعتمد شراء السّلع الغذائيّة من "تعاونيات السّجاد" التّابعة لحزب الله، ناهيك ببعض المحال التّجاريّة التّي تبيع سلعًا سوريّة، بالقول: "حصلنا على بطاقة الحسومات منذ سنة من قبل الهيئات النسائيّة، وصرت أحاول تدبير نظام شراء خاص بي، يتيح لي المجال لصرف الراتب الذي بعهدتي بشكلٍ توفيريّ، وبغض النظر عن الغاية من وراء افتتاح مثل هذه المخازن ومن يقف ورائها، إلا أنها اتاحت لي الاستمراريّة في الشهور الأخيرة".

وبالفعل باتت هذه التّعاونيات أو مخازن البيع بالتّجزئة بأسعار مخفضة، ملاذ سكّان الضاحيّة الجنوبيّة الاقتصاديّ، وخصوصًا الفئات الأشدّ فقرًا منهم، وتحديدًا "مخازن السّجاد والنور" التّي أطلقها حزب الله ووزّع بطاقات الحسومات على مناصريه وبيئته، ومؤخرًا على غير المحزّبين، للاستفادة منها. ومجموعها هو 11 مخزنًا تقع ضمن بلديات عدّة في بيروت (الشويفات، طريق المطار، تحويطة الغدير، المريجة، الجاموس وهو أكبرها) ناهيك بانتشار عددٍ منها في البقاع وتحديدًا مدينة بعلبك، والجنوب في صور.

وبصرف النظر، عن كون دعاية الحزب الأوليّة لمخزني "السّجاد والنور" كان ببساطة "تحدي الأزمة والحصار" بالبضائع الإيرانيّة وباللّيرة اللّبنانيّة، إلا أن الوضع قد تغير في السّنتين الأخيرتين، حيث باتت البضائع المتوفرة مزيج مستورد من شتّى الدول القريبة وتحديدًا سوريا (التهريب) أو الشركات اللّبنانيّة التّي كسدت سلعها، بعد استحالة استيراد البضائع من إيران، الغارقة في أزماتها الاقتصاديّة الخاصة (وحاجتها للعملة الصعبة).

وعلى شاكلة "السّجاد"، انبثقت في سنوات الأزمة الأخيرة، عدّة متاجر تبيع السّلع الغذائيّة في المناطق الشعبيّة وتحديدًا في أسواقها المفتوحة كحيّ السّلم (جانب الجامعة اللّبنانيّة)، وبرج البراجنة، تبيع المنتجات الأساسيّة، كالمعلبات السّوريّة والتركية، والأجبان والألبان محليّة الصنع، والتبغ السّوريّ والخضار المزورع في الخيم الزراعيّة ضمن نطاق الضاحيّة وجبل لبنان، والذي يكون بأسعارٍ منخفضة عن الخضروات المزروعة في الجنوب وسهل البقاع، نسبةً لنوعيتها وظروف زراعتها. وهذه المحال عادةً ما ترّوج لعروضاتها على وسائل التّواصل الاجتماعيّ، فتبيع سلّعها مع ضمان ربح هامشي تنافسي، فيما اتجه السكّان نحو شراء الملابس والتّجهيزات المنزليّة من محال التّجزئة بالدولار الواحد (متاجر 1 دولار) أو البالات والبضائع المستعملة والأوت ليت (راجع "المدن")، بينما زاد الطلب على المنتجات من النوعين، سوريّة الصنع، لأسعارها التنافسيّة.


سوسيولوجيا الاستهلاك

والواقع المقترح، يُصدّر اتجاهًا مستجدًّا للثقافة الاستهلاكيّة، نشأ بدايةً في الضاحيّة، مع انفتاح حزب الله العلانيّ على الأنظمة والمجتمعات الإيرانيّة والعراقيّة والسّوريّة كتبادلٍ اجتماعيّ وثقافيّ وفكريّ، من حيث الاستهلاك الغذائيّ والقيافة والعادات الاجتماعيّة، ليتحول هذا الاتجاه ومع تفاقم الأزمة الاقتصاديّة، من اختياراتٍ فرديّة بحت، إلى حلّولٍ توفيريّة لجأت إليها هذه البيئة لمواجهة تبعات التفقير..

وإذ تخلى شطرٌ من اللّبنانيين عن الكماليات في المأكل والمشرب على أقلّ تقدير، فقد طرحت هذه المتاجر البدائل عنها من الثقافات الأخرى، فإذا كانت "الحلويات اللّبنانيّة" باهظة الثمن، فالحلوى السّوريّة والإيرانيّة أرخص. وهذا ما ينطبق على باقي أنماط الاستهلاك، فقيافة المستهلكين في هذه البيئة، تغيرت من التّفضيل الشخصيّ نحو الموضة الموفرة والمُصدّرة عادةً من سوريا وإيران والعراق بأسعارها المنخفضة عما عهده الأفراد، على سبيل المثال لا الحصر.

وبالتّبدل التّدريجيّ للأنماط الثقافيّة والاجتماعيّة للسّوق المُصغر (micro- market)، بات من المُمكن القول أن نمط استهلاك هذا المجتمع ورسملته الماديّة والمعنويّة لم يعد مقرونًا بعوامل فرديّة وقواعد سوق ثابتة، بل انتقل ليتداخل مع عاملٍ حاسم وأساسيّ وهو الأمر السّياسيّ الواقع، الذي يُبنى عليه المقتضى والواقع الاقتصاديّ.


تجارة بديلة؟

وهذا النمط من التّجارة، الذي يُطلق عليه اقتصاديًّا وفي الظروف الطبيعيّة بالتّجارة البديلة والتّعاونيّة (alternative/ cooperative trade)، الذي يستهدف الأشدّ فقرًا في الدولة الناميّة، بغيّة تحقيق العدالة في النظم الاستهلاكيّة، قد أسهم حقيقةً وفي فترات متفاوتة في مساعدة السكّان على اجتياز المحنة الاقتصاديّة، وقد عمل الحزب مستميتًا على ضمان استمراريّة هذه الأنماط بالرغم من كونها تباعًا أثبتت حجم أضرارها على السّوق اللّبنانيّ ككل، وغير المستفيدين منها، نظراً لحجم السّوق وطلبه. إذ ساهمت هذه النماذج التّجاريّة في توسيع الشرخ الحاصل بين أهالي الضاحيّة وانقسامهم إلى فريقين، الأول مستفيد من الخدمات الاجتماعيّة، وآخر مضطر للعيش تحت وطأة الأزمة من دون أي دعم لائق من دولته، ولا الجهات الحزبيّة التّي تقدم هذا الدعم.

ففي حديثها إلى "المدن"، تُشير فاطمة ز. وهي ربّة منزل أيضًا، إلى أنها لم تحصل على أي من بطاقات الحسومات، فيما تعتمد أحيانًا على شراء المنتجات الزراعيّة بكميات ضخمة وبسعر الجملة من سوق الخضار في حيّ السّلم أو سوق الأحد الشهير في بيروت. معتبرةً أن شراء السّلع غير معروفة المصدر أو المكونات (المكتوبة بلغات أخرى) وغير الموثوق بها وبأسعار تصل إلى نصف أسعار المنتجات المتوافرة في السّوق، فقد تسبب على المدى البعيد من استهلاكها أضرارًا صحيّة، معتبرةً أن الدعم الوحيد الذي قد يدفعها لشراء سلع بأقلّ أسعار هو دعم الدولة، التّي تشتري السّلع المعروفة المصدر والآمنة صحيًّا وتقدم دعمًا على أسعارها..

هذا مضافًا إلى واقع منافسة هذه البضائع المتوفرة بأسعارٍ منخفضة جدًا مقارنة بالسوق المحليّ للبضائع الموجودة فيه، وعلى قدر ما تبدو هذه التعاونيات تفي بغرضها الاجتماعيّ والإنسانيّ، إلا أنها باتت تؤثر لاحقًا على الجوانب الاقتصاديّة المختلفة، من جهّة كساد البضائع في المحال والأسواق الأخرى وانخفاض الطلب عليها مقابل ارتفاع الطلب على بضائع هذه الاستهلاكيات بصورة مستمرة مع ضخّ المزيد من الكميات للسّوق المصغر دائم الاستهلاك، الخاص به. ما من شأنه تباعًا تعميق الهوّة الاقتصاديّة بين هذا السّوق والسّوق غير المستفيد من خدماته.

تعليقات: