من أهم آثار الحرب البيئية المسكوت عنها: استحالة تنظيف القنابل العنقودية من الأراضي الحرجية .. والهجرة.
من يهتم للبيئة خلال الحرب وبعدها؟ كيف يمكن توجيه الاهتمام الرسمي والأكاديمي والأهلي إلى قضايا البيئة والتلوث في وقت يموت فيه الناس؟ كيف يطلب من المواطن المحافظة على الغابات في ظل استحالة ولوج الأراضي بسبب انتشار القنابل العنقودية فيها؟ هل يمكن التحدث عن التخلص الآمن من النفايات المنزلية أو الصرف الصحي في البلديات وكل المؤسسات الموجودة مجندة لأعمال رفع الأنقاض والبيوت المهدمة وجرف وتنظيف القرى المدمرة؟ أخيراً وليس آخراً كيف نسأل الحكومة ووزارة البيئة عن تطبيق سياسات بيئية ملائمة ومحفزة لمفهوم التنمية المستدامة فيما الجميع منشغل بأعمال الإغاثة وإعادة الإعمار؟
لعل المحاولة في الإجابة عن الأسئلة الصعبة تلك تحتم إعادة النظر بمجمل الوضع البيئي وإدارته في لبنان غير المنسجم مع الحاجات والأولويات الوطنية. أما اليوم، ولبنان ما زال يحاول لملمة الجراح وإعادة الإعمار، فالوضع البيئي مقلق رغم الهموم الكبرى الأخرى. ووضع إدارة البيئة مقلق أيضاً في وزارة البيئة وفي المؤسسات الأخرى لجهة اعتبار هذا الهم في أسفل الأولويات ولجهة التدهور المتعدد الأسباب في فريق إدارة البيئة في لبنان.
وبما أن مشاكل البيئة مرتبطة إلى حد كبير بسياسات التنمية، وأن البيئة السليمة المطلوبة هي التي يسعى إليها العاملون في مفهوم التنمية المستدامة، عليه، لا يمكن النظر في الآثار البيئية للحرب وما بعد الحرب من دون اعتبار الآثار الاقتصادية والاجتماعية وممارسة الإدارة كأسس وأعمدة مفهوم التنمية المستدامة، وهو مبتغى كل العاملين والمعنيين بقضية البيئة والحفاظ على الموارد الطبيعية من أجل إنسان اليوم وإنسان الغد على السواء.
آثار العدوان البيئية
بالإضافة إلى الخسائر البشرية والمادية فقد سببت هذه الحرب أضرارا واسعة على المستوى البيئي، ستكون لها انعكاسات سلبية على المدى البعيد.
وإذا كان تلوث البحر بالنفط جرّاء القصف على محطة الجية هو الأبرز أمام العالم، فإن القذائف والمتفجرات والحرائق وغيرها من منتجات الحرب قد طالت بيئة لبنان من كل النواحي. هذه الأضرار لم تنتج فقط بطريقة مباشرة عن القذائف الإسرائيلية بل بسبب النزوح الكثيف الذي شهده الجنوب وهجرة الأرض التي تشكل هاجساً أساسياً للبيئيين. كما أن تدهور الحالة الاقتصادية والسياسية في البلاد يطال القطاع البيئي بشكل كبير، إذ ان الأولويات تصبح في تأمين الأمور المعيشية وأبسط الحاجات الاجتماعية وتُهمل الأمور البيئية وخصوصاً ما يضبط منها حركة الإنماء العشوائية في إطار إعادة الإعمار.
ومن وجهة نظري فإن أخطر نتيجة للحرب ليس فقط على البيئة وإنما على وجود الإنسان الجنوبي في أرضه هو في انتشار هذا العدد الهائل من القنابل العنقودية في أراضي الجنوب. وفق التقارير الصادرة عن مكتب نزع الألغام التابع للأمم المتحدة، جرى تحديد ستة أنواع مختلفة من القنابل العنقودية التي تم استعمالها خلال الحرب وتم تقدير نحو 2.8 مليون قنبلة لم ينفجر منها نحو 40 أي ما يقارب 1.12 مليون قنبلة. ومتوسط عمر هذه القنابل يتفاوت بين 25 و40 سنة مما يشكل خطراً جدياً على الأجيال القادمة من السكان المحليين. ويعتبر من الصعب تمييز معظم هذه القنابل العنقودية الصغيرة، إذ انها تكون مغطاة بالتراب أو بالأعشاب وهي حساسة جدا ويمكن أن تنفجر بمجرد لمسها. هذا وقد وصل عدد الضحايا جراء القنابل العنقودية والأجسام غير المنفجرة من 14 آب (تاريخ وقف إطلاق النار) ولغاية 7 كانون الأول 2006 إلى 182 ضحية بينها 34 قتيلاً و 148 جريحاً معظمها من المدنيين والأطفال.
إضافة للمخاطر المباشرة لهذه القنابل، هناك آثار اقتصادية واجتماعية تؤثر على حياة الناس بسبب منعها لهم من ولوج الأراضي الزراعية والموارد الطبيعية بسبب الخوف منها حيث تعذر في العديد من المناطق جني المحاصيل الزراعية وخصوصاً الزيتون، وطال الأمر بعض غابات الصنوبر المثمر في منطقتي جزين والعرقوب. وبالاعتماد على الأرقام الواردة أعلاه والصادرة عن المكتب الوطني لنزع الألغام فإن 8 قتلى من بين 18 قتيلاً كانوا يقومون بأعمال زراعية أو أعمال رعي (أي بنسبة 4,44٪ من القتلى) في حين أن 41 جريحاً من بين 148 جريحاً سقطوا وهم يقومون بأعمال لها علاقة بولوج الأراضي الزراعية والموارد الطبيعية (أي بنسبة 28٪ من الجرحى). وتظهر هذه النسب العالية مدى تأثر العلاقة بين الإنسان ومحيطه الطبيعي في المناطق المستهدفة بوجود هذه الأجسام الخطرة، وأن حجم هذه المشكلة سيستمر على ما هو عليه خلال 25 إلى 40 سنة. وتعتبر هذه المشكلة كارثية في مناطق الجنوب حيث تقدر وزارة الزراعة اللبنانية ومنظمة الأغذية والزراعة (الفاو) اعتماد 70٪ من السكان على الزراعة وولوج الأراضي الزراعية والوصول إلى مياه الري.
من ناحية أخرى، فإن هذه الأجسام قابلة للانتقال من موقع إلى آخر نتيجة لأسباب طبيعية كانجراف التربة وتدفق مياه الأمطار مما يسبب في تعريض مناطق اعتبرت خالية في السابق من وجود القنابل العنقودية.
وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أنه سيتم التخلص من هذه القنابل خلال العام القادم. إلا أنه من المستبعد ذلك لاستحالة القيام بتنظيف الأراضي الجنوبية وخصوصا الحرجية والهامشية منها التي استهدفها القصف الإسرائيلي العشوائي بحجة أنها تؤوي مراكز لإطــلاق صـواريخ المقاومة. وبالرغم من الجهود الجبارة لجميع العاملين في المنظمات الدولية ووحدات الأمم المتحدة والجيش اللبناني لإزالة القنابل العنقودية والتي ساهمت في تنظيف معظم المناطق المأهولة كالأبنية والطرقات وبعض الأراضي الزراعية فإن الجزء المتبقي هو الأكبر والأكثر صعوبة وتعقيدا للتنظيف.
عليه من المتوقع أن يبقى أثر هذه الأجسام حاضرا في تهديد حياة الجنوبيين لولوجهم أراضيهم، مما سيضيف سبباً إضافياً مهماً لاستمرار الهجرة التقليدية من الجنوب الريفي والزراعي باتجاه أحزمة الفقر حول العاصمة وإلى خارج لبنان. إن ذلك هو أهم نتيجة للحرب الأخيرة وآثاره ستنعكس على كل الملفــات الأخـرى في المستقبل.
تعليقات: