سباحة في النفق: 10 سنوات تكشف حقيقة الفيضانات

تُلقى مسؤولية الفيضانات على كاهل الأمطار (علي علوش)
تُلقى مسؤولية الفيضانات على كاهل الأمطار (علي علوش)


تحاول الوزارات والشركات المعنية بمتابعة ملف فيضان مياه الأمطار واجتياحها الطرقات والمرافق العامة والأملاك الخاصة، تقديم أدلة على براءتها من أي ارتكاب أو تقصير أدّى أو ساهم بتعزيز ضخامة الفيضانات وتوسيع دائرة خسائرها. فتؤكّد وزارة الطاقة إتمام مهامها في ما يتعلّق بمجاري الأنهار، وتشرح وزارة الأشغال حسن تنفيذ ما يتوجّب عليها من مهام. في حين تبادر الشركات المتعهّدة أعمال الأشغال والصيانة، إلى تقديم أدلّة إنجازها الأشغال المكلّفة بها وفق ما هو مطلوب. وتدفع تلك الجهات نحو خلاصة وحيدة هي تحميل الطبيعة مسؤولية ما يجري.

لا احتمال أمام الطبيعة لعقد مؤتمرات تقدّم فيها مطالعتها في هذا الملف. لكن العودة بالتاريخ القريب تُظهِر الكثير من الحقائق وتطرح تساؤلات تعيد ترتيب المهام وتصل إلى تساؤلات يمكن الركون إليها لإصدار الأحكام.


شمّاعة الأمطار

مذ فاضت المياه إلى داخل مطار بيروت، حُمِلَت معدّلات المتساقطات قميص عثمان، ما زالَ يُطاف به حتّى اللحظة. غرق المطار والطرقات والأنفاق، ونُشِرَت مقاطع فيديو تصوِّر مواطنين يسبحون داخل الأنفاق في محاولة للخروج بعد أن غرقت سيّاراتهم.

حاوَلَ وزير الأشغال العامة علي حميّة شرح بعض مسبِّبات الفيضانات انطلاقاً من قطع المياه لطريق ضبيّة. فأكّد عبر مواقع التواصل الجتماعي أن "كميات هائلة من رمول البناء تُرمى في قناة ضبيّة، مصدرها ورش البناء في أعالي المنطقة، وهي ستتسبب حتماً في رفع منسوب المياه فيها ومن ثم فيضانها مع الرمول نحو الأوتوستراد، مما سيؤدي إلى انسداد مجاري التصريف عليه، وبالتالي تجمع للمياه وإقفال الطريق". وأظهَرَ تسجيل فيديو نشره الوزير على منصة "إكس" (تويتر) كيف تزيل الجرّافات التابعة للوزارة، تلك الرمول.

قد تختلف مواقع الفيضانات ومستويات أضرارها بين منطقة وأخرى، لكنها تشترك في الأسباب عينها. ومع ذلك، لم تحسم الجهات الرقابية قرارتها، وفي مقدّمتها ديوان المحاسبة الذي يتولّى التدقيق بملف فيضان المطار، والذي يُعتَبَر السبيل الأسرع والأوسع للوصول إلى الحقيقة. ومع أن المسارات القانونية تفترض تقديم الأدلة ودراسة المعطيات قبل إصدار الأحكام، إلاّ أن التجربة وألسن الناس والخبراء في هذا المجال، تحسم الجدل بوجود تقصير مفتعَل وممنهج ومستمر على مدى عقود، ويُراد طمسه بشمّاعة المتساقطات التي تحتمل التأويل.


النبش في الأوراق الماضية

إذا كان الديوان ينتظر "استكمال دراسة الملف"، وفق ما يؤكّده لـ"المدن"، القاضي عبد الرضا ناصر الذي يتولّى الملف في ديوان المحاسبة، فإن العودة إلى بعض المحطّات، وتحديداً إلى العام 2013، يكشف الكثير عمّا يحصل في الملف. إذ لم تتغيَّر بعد منهجية الجهات الرسمية ومتعهِّدوها، ولا الأماكن الرئيسية لحصول الفيضانات. والسنوات العشر هي في الغالب مدّة زمنية تعتمدها الدول لتنفيذ خطة تنتقل خلالها من طورٍ إلى طورٍ مختلف يضمن النموّ والازدهار. لكننا في لبنان انتقلنا خلال 10 سنوات إلى دركٍ لم نعهده سابقاً.

قبل 10 سنوات، غرقت سيارات في نفق المطار على المدخل الجنوبي لبيروت، شأنه شأن الكثير من المناطق. لكنّ المدّعي العام المالي علي ابراهيم، خلص إلى أن شركة الشرق الأوسط لخدمة المطارات MEAS المتعهّدة أعمال الصيانة والتشغيل لمنشآت المطار ومبانيه، متّهمة بـ"جرم الإهمال والتخريب"، وذلك لعدم إنجازها مهمة تنظيف مجاري نفق المطار، عبر شركة فرعية تلزِّمها هذا الجزء من الأشغال. رغم أن الشركة قدّمت لإبراهيم وثيقة تدلّ على أنها لزّمت شركة الجنوب للإعمار، تنظيف المجاري، لتعود الأخيرة وتثبت للقاضي ابراهيم عدم التزامها أي أشغال. ما كان من ابراهيم إلاّ الادّعاء على MEAS. وللسخرية، بقيت MEAS بمهامها، وهي الآن تحاول إثبات براءتها من أي إهمال طال عملها في المطار.

ويومها ساد الأخذ والردّ بين الوزارات المعنية، خصوصاً وزارة الأشغال العامة التي اتهمت وزارة المالية بعدم تحويل الاعتمادات المالية اللازمة لإجراء أعمال الصيانة وتنظيف مجاري نفق المطار، وردّت وزارة المالية باتهام وزارة الأشغال بالفساد. ليخلص الملف إلى المجهول وتكرار الفيضانات.

في العام التالي، عاد النقاش إلى الواجهة في موسم الأمطار. وأكّد وزير الأشغال العامة، حينها، غازي زعيتر، أنه وقَّعَ جميع الكشوفات المالية المطلوبة للشركة المتعهِّدة تنظيف المجاري، وحذّر من أي تذرُّع بعدم وجود الأموال... وفاضت المياه في نفق المطار وطرقات أخرى. وقدّمت MEAS ما يدلّ برأيها على حسن سير مضخّاتها وألقت اللوم على كمية الأمطار التي هطلت وكانت بمستويات تتخطّى قدرة البنى التحتية للنفق على تحمّلها.


الأموال كانت متوفِّرة

بقيَ النهج قائماً رغم تكرار الأزمة. وهناك مَن يستمر بالجلوس على عرش تعهّدات يُحَرَّم المسُّ بها. علماً أن تكرار الأزمة في مواقع معروفة، يفترض إحداث تغيير يبدأ من إعادة النظر بالبنى التحتية، إذا ما سلّمنا بعدم وجود فساد متعمَّد. وهو أمر لم يحصل منذ العام 1998 وليس فقط منذ 10 سنوات.

إذا كانت الذريعة اليوم هي عدم توفّر الأموال الكافية بفعل انهيار قيمة الليرة وعدم قدرة الدولة على تمويل التعهّدات، فلماذا لم تنتهِ الأزمة قبل انهيار سعر صرف الليرة؟. وإذا توفَّرَت الاعتمادات، مَن يضمن حسن التطبيق؟، سيّما وأن التجربة دلَّت على أن الاعتمادات المالية ليست هي العائق.

النبش في الدفاتر القديمة يدفع مصادر قضائية متابِعة للملف، إلى عدم اتهام غزارة الأمطار. ووفق ما تقوله المصادر لـ"المدن"، لا مجال للشك بأن "نسبة المتساقطات الهائلة تساعد في حصول الفيضانات". لكن من غير الصحيح رمي كل شيء على الأمطار. ولذلك "إن التحقيقات مستمرة في ملف المطار وفيضان نهر بيروت والأنفاق وغيرها. وهناك تقارير طُلِبَت من وزارة الطاقة وبلدية بيروت، وسنرى ما قد يحصل". وتشير المصادر إلى أن "التعدّيات والإهمال، هما سببان أساسيان لحصول الأزمة. ولنكن واقعيين، فإن الأمطار ليست السبب الوحيد، وستبيِّن التحقيقات مَن سيتحمّل المسؤولية".


تعليقات: