عادت الحرارة للنقاشات البرلمانيّة، التي تبحث في إمكانيّة إقرار تشريع جديد ينظّم عمليّات الإقراض المصرفي، بالدولار الفريش. وغاية التشريع، كما هو واضح حتّى اللحظة، هو ضمان إعادة تسديد هذه القروض بالدولار النقدي، لا الشيكات المصرفيّة أو الليرة اللبنانيّة. من الناحية القانونيّة البحتة، يمكن القول أنّ هذا التشريع يمثّل بالفعل الغطاء المطلوب لتمكين المصارف من استئناف عمليّات الإقراض بالدولار. وهو ما يعالج إحدى الإشكاليّات التي فرملت عمليّات التسليف حتّى بعد استقطاب المصارف لبعض السيولة من الودائع بالدولار الفريش. لكن من الناحية الماليّة، ما زال هناك العديد من المحاذير والعوائق التي تحول دون توسّع المصارف بإقراض الدولارات النقديّة، كما يراهن المتحمّسون للمشروع.
وتجدر الإشارة إلى أنّ النائب فريد البستاني كان تقدّم باقتراح قانون لتعديل قانون الموجبات والعقود، بهدف ضمان تسديد القروض الجديدة بعملة الإقراض نفسها، في محاولة لإعادة تحريك العجلة الاقتصاديّة وإعادة استقطاب الأموال المودعة في المنازل إلى القطاع المصرفي. غير أن المقترح الذي بات على طاولة وزارة الاقتصاد، لم يدخل بعد في دائرة الدراسة التقنيّة، وخصوصًا تلك المتصلة بكيفيّة فصل الميزانيّات ما بين القروض والودائع القديمة، والقروض التي سيتم منحها في المستقبل، خصوصًا أنّ تمكين المقترض من تسديد القروض الجديدة بالشيكات المصرفيّة قد يعيد الأمور إلى نقطة الصفر. ربما لهذا السبب بالذات، جاءت إشارة البستاني إلى أنّ لجنة الاقتصاد ما زالت "تدرس كيفيّة فصل الماضي عن الحاضر والمستقبل"..
إشكاليّة القروض الحاليّة وهدف التشريع الجديد
بين منتصف 2019 ونهاية العام 2023، تراجع حجم القروض الممنوحة في القطاع المصرفي من 48.16 مليار دولار إلى أقل من 7.35 مليار دولار، وهو ما أشّر إلى حقيقة بالغة الخطورة: لم تعد المصارف تمنح أي قروض جديدة، بل باتت تكتفي بتحصيل ما منحته سابقًا من قروض. وخطورة هذه الحقيقة لا ترتبط فقط بكون القطاع المصرفي لم يعد يمارس أبسط مهامه التقليديّة، أي تسليف الأموال المودعة لديه، بل أيضًا بكون الاقتصاد المحلّي بات محرومًا من مصادر التمويل والإقراض البديهيّة، أي المصارف التجاريّة.
في واقع الأمر، لم تقتصر مشاكل المصارف، التي أدّت إلى وقف عمليّات التسليف، على فقدان السيولة. فحتّى بعد تلقّي المصارف لمليارات الدولارات الطازجة، على شكل ودائع "فريش"، لم يكن من الممكن استعمال هذه السيولة في أي عمليّات إقراض جديدة، ولو بالدولارات الطازجة. باختصار، ما زالت المصارف حتّى هذه اللحظة تخشى من إطلاق أي برامج إقراض جديدة بالدولار الطازج، خوفًا من إعادة تسديد هذه القروض بالدولارات المحليّة، أي بالشيكات المصرفيّة (اللولار). ومن الناحية القانونيّة، لا يوجد ما يمنع المودع اليوم من استعمال أموال وديعته، التي هي إلتزام مستحق على المصرف، لتسديد قرض منحه المصرف لأي مقترض.
ومن الناحية المحاسبيّة، إذا قامت المصارف بتسليف الدولارات الطازجة المودعة لديها، وعادت وتلقّت هذه القروض بالشيكات المصرفيّة أو بالليرة اللبنانيّة، فستكون قد خسرت القدرة على إيفاء إلتزاماتها لأصحاب الودائع "الفريش". أي بمعنى آخر، ستكون المصارف قد وسّعت نطاق أزمتها لتشمل الودائع الجديدة، بعدما طالت هذه الأزمة الودائع القديمة (أو اللولار كما بات يُعرف محليًا).
لهذا السبب، ومنذ أن عادت المصارف لتلقي السيولة بالدولار الطازج، ربطت إمكانيّة إقراض الدولارات الطازجة بإقرار قانون يحصّن عمليّات التسليف الجديدة، ويمنع تسديد هذه القروض بالشيكات المصرفيّة (اللولار). ومن هذه الزاوية، يمكن فهم النقاشات البرلمانيّة الجديدة، التي تبحث إمكانيّة إقرار قانون من هذا النوع، لإعادة ضخ السيولة والقروض في السوق المحليّة. مع الإشارة إلى أنّ تمكين المصارف من منح القروض الطازجة (الفريش)، سيعطيها القدرة على منح فوائد على الودائع بالدولار الطازج، وهو ما يفسّر ربط القانون باستقطاب الدولارات المودعة في المنازل، وبالحد من اقتصاد النقد الورقي.
محاذير وعوائق
بمعزل عن أهداف الفكرة، والتي غالبًا ما يتم طرحها من باب إنعاش حركة السيولة في السوق المحليّة، من الأكيد أن الإطار القانون وحده لا يكفي لإطلاق حركة الإقراض بالدولار الطازج. فهذه الفكرة، ما زالت حتّى اللحظة مُحاطة بالكثير من المحاذير والقيود والعراقيل، التي لم يتم تذليلها بعد.
الإشكاليّة الأولى، تكمن في عدم شعبيّة هذه المقترح على مستوى المودعين، وهو ما قد يقيّد قدرة النوّاب على السير بالفكرة حتى النهاية. فعودة المصارف إلى منح القروض بالدولار النقدي، ورفضها تلقي الودائع المصرفيّة كوسيلة إيفاء، بالتوازي مع رفضها تسديد إلتزاماتها للمودعين، تمثّل بحد ذاتها فكرة مستفزّة لعموم المودعين. كما أن الفكرة تتكامل مع ما يراه المودعون اليوم محاولةً لخلق نظام مالي جديد "فريش"، موازٍ للنظام المصرفي القديم الذي لم تُعالج مشكلته بعد. والمضي بمعالجة مشاكل الإقراض، قبل معالجة مشكلة المودعين، سيكون وسيلة لتطبيع وتأبيد الوضع الراهن، بدل معالجته.
على المقلب الآخر، تُعود الغالبيّة الساحقة من الدولارات الطازجة المودعة في المصارف اليوم إلى حسابات جارية وسريعة الحركة، إذ لا تملك المصارف حاليًا برامج إدخاريّة طويلة الأجل لتقدّمها للمودعين. وهكذا، سيكون من الصعب على المصارف التجاريّة مواءمة آجال القروض، التي يتم جدولتها على دفعات شهريّة أو فصليّة، مع آجال الودائع التي تمثّل مصدر الدولارات الطازجة، التي يمكن أن يطلبها أصحاب الحسابات الجارية في أي لحظة. ومن المعلوم أن إدارة ومطابقة آجال الودائع مع آجال القروض يمثّل ألف باء العمل المصرفي، وخصوصًا في مجال التسليف.
هنا، يمكن للمصارف أن تراهن على إطلاق برامج إدخاريّة جديدة بالدولار الطازج، بما يسمح بمنح فوائد مقابل إيداع الأموال لآجال متوسّطة. وبذلك، يمكن للمصارف أن تستخدم هذه السيولة في عمليّات الإقراض، في حال توفّر الإطار التشريعي المطلوب. غير أن استقطاب الودائع، وتجميدها لآجال تتخطّى الأيّام المعدودة، يحتاج لاستعادة الحد الأدنى من الثقة، بعد إعادة هيكلة ورسملة القطاع المصرفي، وهو ما لم يتوفّر بعد.
لكل هذه الأسباب، قد يكون الإطار التشريعي ضروريًا لإعادة تحريك عجلة الإقراض في القطاع المصرفي. ومن الأكيد أن إعادة تحريك عجلة الإقراض هو خطوة مطلوبة، لتمويل نشاط القطاعات الاقتصاديّة المحليّة. غير أنّ الاكتفاء بوضع الإطار القانوني لن يكفي وحده، ما لم يتم السير بسائر الإصلاحات العاجلة المطلوبة على المستوى القطاع ككل، وفي طليعتها معالجة الخسائر المتراكمة في الميزانيّات المصرفيّة، ووضع الحلول –ولو التدريجيّة- لأزمة الودائع "غير الطازجة". عندها فقط، يمكن أن يستعيد القطاع المصرفي قدرته على تقديم خدماته التقليديّة، ومنها التسليف.
تعليقات: