لنبع سريد العديد من الأحاديث والأقاويل، التي تدل على قوّته وغزارة مياهه
في إحدى ليالي كانون الثاني من العام 1974، كانوا متحوكمين حول صوبيا، ماركة الشمس، صُنعت في جديدة مرجعيون، وكانت المرحومة الوالدة أم عاطف تدفىء يديها وتنظر بفرح غامرٍ إلى أولادها، وهم ينظرون إليها ويُصغون الى هدير النار في الصوبيا، و كان خداها الرائعان، يزدادان تورداً وتألُّقاً، كلما زاد دفؤها، وأبو عاطف يتحدث إلى ابنائه الذين عاد بعضهم من عمله للتو، والبعض الآخر راح يحضِّر دروسه وفروضه ليوم الغد..
فجأة سمع أفراد الأسرة صوتاً عميقاً يشبه صوت الرعد، الأمر الذي أصغت إليه أم عاطف جيداً، وشرَدَت للحظة وكأنها تتذكر حدثاً عزيزاً على قلبها، وقالت إن هذا الصوت يا اولادي، لا شك أنه هو صوت تَفَجُّر نبع سريد، الذي يقع جنوب شرق بلدة الماريه، وأضافت أنها لا زالت تذكر هذا الصوت وتميزه منذ أيام طفولتها، حيث كانت في فترة الصبا، تذهب برفقة الأهل والجيران والرفيقات، في أيام الربيع الجميلة ويقصدون نبع صريد الجميل، ويغسلون الملابس، يطهون الطعام ، ويسلِّقون العِلت والدردار والحُمَّيض والبقلة والشومر وحبق المي والهليون وغيرها الكثير.. ويطبخون المجدرة ويفرمون التبولة، ويتناولون غداءً لذيذاً مع الخضار، ويلعبون ويلهون ويتسابقون، وعند العصر يستعدون للعودة الى الخيام، فيعبرون النهر، وينشدون الاغاني ، ويَصِلوا مُرهقين في المساء، فيرتاحون قليلاً، ويناموا نوماً عميقاً "لا من إيدهم ولا من إجرهم"، كما يقولون.
وفيما الأولاد يستمعون بشغف وإنصات لحكاية والدتهم الجميلة ، يتدخل المرحوم أبو عاطف مرتباً العباءة التي يرتديها ، ويقول "رحم الله الحاج علي عواضة ، كان رجلاً طيباً وشاعراً يقول العتابا والقصائد الجميلة، وأولاده هم الحاج حسين صاحب الدكان ، والحاج محمد علي تاجر الأقمشة والحاج عبد الكاظم المزارع ، وكان للحاج علي ولد شاب إسمه حسين ، قبل أن يُنجب حسين صاحب الدكان ، وقد ذهب يوماً حسين مع رفاقه لجمع الحطب من محيط بلدة حلتا، قرب نبع سريد ، فجمعوا الحطب ، وارتاحوا قليلاً وحمل كل فردٍ منهم حِملَ حطبه على ظهره ، وتوجهوا نحو الخيام ، وقد اضطروا الى أن يقطعوا مجرى نبع سريد ، الذي كان حاملاً في ذاك العام ، وفيما كان حسين يعبر المجرى مع رفاقه ، جرفه مجرى الماء الهادر ، وذهب به بعيداً ، لدرجة عجز فيها عن التخلص والنجاة من صخب المياه ، ولم يتمكن رفاقه من تخليصه ، فذهب الماء به بعيداً ، وغاب عن أنظار رفاقه ،الذين مضى بعضهم مسرعين إلى الخيام ليبلغوا الحاج علي عواضة بما جرى لولده وفلذة كبده ، فما كان من الحاج علي إلَّا أن ركب البغلة وانحدر مسرعاً نحو مجرى نبع سريد باحثاً عن حسين ، وكانت عيناه تتطلعان بلهفة نحو المجرى والضفاف وهو يصرخ من عمق أعماق وجوده "يا حسين"، علَّه يرى حسين وفيه بعض رمقٌ من حياة ، لكنه وجد بداية كومة حطب هادئة خلف صخرة ، وسط المجرى ، فركض متوجهاً جنوباً باحثاً عن الحطَّاب الشاب ، وظل يمشي ويهرول حتى لمح من بعيد الواناً لملابس وسط المجرى ، فاقترب مسرعاً ، وإذ به يجد حسينه، جثة هامدة بلا حراك، ولمَّا وصل إليه، عانقه وقبَّله وبكى عليه بدل الدموع دماً، ونظر الى السماء نظرة ملؤها الأسى والشعور بالفجيعة، وصاح بأعلى صوته "ياحسين ، يا قبَّاري يا حسين" وأجهش بالبكاء وقتاً طويلاً بلا توقف، وبعدما تعب من البكاء والنحيب، حمل حسينه على ضهر الدابة وعاد به الى الخيام مكلوماً حزيناً، ولاحقاً ، بعدما هدأ روعه، قال الحاج علي عواضة بفقيده وحبيبه وثمرة فؤاده أبياتاً جميلة من العتابا، مازال الخياميون يحفظونها ويرددونها إلى يومنا هذا، وهي:
«قطعت سريد كان سريد حامل، حطب من فوق ضهرو حسين حامل، بَالله عليك يا نهر المحامل، هدِّي شوي تنشوف الحباب»
عدنان إبراهيم سمور
باحث عن الحقيقة (22/01/2024)
موضوع ذات صلة:
نبع سريد.. ثروة مائية على طريق الجفاف
المرحومة أم عاطف سمور
المرحوم أبو عاطف سمور
تعليقات: