إما الموت في المنازل، أو التّشتت في دور الإيواء (Getty)
كأن هناك سياسة متعمّدة من قبل القيمين على مصير الجنوب وأهله، بعدم الانتباه أو الإضاءة على المأساة المتنامية هناك. بل وكأن هناك تعتيماً مقصوداً، رسمياً وحزبياً، على الكارثة المحدقة بالبلاد وبالسكان. فما يجري ليس أقل من تدمير بطيء وبالتقسيط لمقومات العيش، وتبديد لجهود أجيال في البناء والتنمية.
"اعتدنا صوت الطيران الحربيّ والمسيّرات التّي تحلق فوق منازلنا ورؤوسنا؛ حالة الجزع والذعر التّي ألمت بالسكّان بدايّة الحرب، بدأت بالإنكفاء لصالح معرفتنا المسبقة أنّه في حال تركنا بيوتنا اليوم وفي ظلّ الأحداث العسكريّة التّي أضحت في وتيرةٍ شبه ثابتة، فإننا سنضطر لاحقًا للعودة، كما عاد غيرنا مسلمًا أمره لواقعٍ ينحصر بين خيارين، إما الموت في المنازل، أو التّشتت في دور الإيواء والانسحاق تحت وطأة النّزوح". يسترسل الشّاب العشرينيّ محمد (مفضلًا عدم ذكر اسمه كاملًا) من بلدة البازوريّة - شرقيّ مدينة صور الجنوبيّة، بالقول: "عمليّة الاغتيال التّي حصلت في بلدتنا البازوريّة السّبت الفائت، تفاوت صداها بين النّاس أنفسهم، إلا أننا ندرك أنّها مُدبّرة وواردة، ولذلك فقلّة قليلة نزحت كردّ فعل أوليّ".
بين نظريّة "استعراض القوّة المحدود" وواقع الاشتباكات العنيفة، المباغتة والمتصاعدة تدريجيًّا رغم أنف المفاوضات والوساطات المحليّة والخارجيّة، لا يزال أهل الجنوب اللّبنانيّ وسكّانه يعيشون في دوامة مغلقة من الضلال وانتقاء اليقين، تتوسع وتضيق تبعًا لواقع الميدان. الذي بات الثابت فيه تراكم الخسائر التّي يتكبدها الجنوب لصالح هذه الحرب، بمساحاته الخضراء وأرزاق المواطنين وحياتهم.
النازحون قسرًا في الجنوب
حتّى اللّحظة، ووفقًا للمنظمة الدوليّة للهجرة IOM في تقريرٍ جديد أوردته نهار الخميس الفائت، 18 كانون الثّاني الجاريّ، ضمن عمليّة الرصد والتّوثيق، فإن التّصعيد عند الحدود بين إسرائيل ولبنان أدّى إلى نزوح 83,117 شخصاً ضمن الجنوب حيث المنطقة الحدوديّة (1 بالمئة زيادة منذ التّاسع من الشهر الجاريّ)، وتبين حسب نتائج التّقرير أن النازحين داخليًّا سعوا إلى إلتماس الأمان في 428 موقعًا على امتداد لبنان، ولوحظ النزوح في 24 بلدية من أصل 26 بلدية في جميع المحافظات الثّماني. بينما يتواجد معظم النازحين (97 بالمئة منهم) في خمس مناطق من إجماليّ 24 منطقة تستضيف نازحين، وعلى وجه التّحديد، صور، النبطيّة، صيدا، بيروت وبعبدا.
وأوضّح التّقرير أن الغالبيّة (حوالى 93 بالمئة) يتحدرون من ثلاثة أقضيّة واقعة على الحدود: بنت جبيل، مرجعيون، وأخيرًا صور بأقلّ نسبة. وأضافت المنظمة أن اثنين في المئة فقط من النازحين (1,120 شخصاً) يقيمون في 14 مركز إيواء جماعيّ موزّعة في جنوب البلاد، ولا سيّما في مدينة صور السّاحلية (ستّة) والنبطيّة (سبعة) وحاصبيا وراشيا وصيدا والبقاع. أما البقية فقد استأجروا شققًا، أو انتقلوا للعيش في منازل أخرى يملكونها في مناطق أبعد من المناطق الحدوديّة. أما مراكز الإيواء بمعظمها فهي مبانٍ تعود إلى معاهد ومدارس وجامعات وجمعيات، وتُعتبر صور السّاحليّة المقصد الأكثر شعبيةً في صفوف النازحين، فيما تستقبل فيها تكميلية صور الرسميّة الثانيّة أكبر عدد من النازحين.
ومجدّدًا بالرغم من كون القرى الواقعة في النقاط السّاخنة الحدوديّة باتت شبه خاليّة من السكّان، فإن هذه الأرقام، لا تعني بالضرورة أن أعداد النّازحين قسرًا ثابتة وحاسمة، بل وتؤكد دومًا الجمعيات والمنظمات الأمميّة العاملة في الجنوب، التّي تتواصل معها "المدن" بصورة دوريّة، أن الأعداد تحتمل الزيادة، بالنظر لواقع بقاء عشرات العائلات في القرى البعيدة عن الحدود بصورةٍ متوسطة، لعدم مقدرتها الماديّة على النّزوح وغياب مأوى لها تلتمس فيه الأمان، غير منازلها.
أزمة مستفحلّة
وعطفًا على المقابلة التّي أجرتها "المدن" مع برنامج الأغذيّة العالميّ (الذي يُعد من أكبر المساهمين في عملية الإغاثة والمساعدة الإجتماعيّة)، والتّي خلُصت بالتّعرف إلى الأزمة المستجدّة والمحدقة بأمن اللّبنانيين الغذائيّ والنازحين على وجه التّخصيص (راجع "المدن")، فإن الوضع بات يزادد صعوبةً وشدّة عما عليه اليوم مع مرور الوقت، بغياب المبادرات الحكوميّة (رصد مبلغ 10 مليون دولار وحسب كتعويضات)، والاستعاضة عنها بالمبادرات الإنسانيّة المحدودة، التّي تقدمها الجمعيات الأهليّة والمنظمات الأمميّة، التّي باتت أساسًا في معترك تخصيص موارد إضافيّة من المانحين الدوليين، الذين أساسًا يقسمون التّمويل وفقًا للأولويات، في منطقة مشتعلة كالشرق الأوسط، وشرق أوروبا (أوكرانيا) وشمال أفريقيا (السّودان). بينما يبقى وضع النازحين في وتيرةٍ إنحداريّة، أكان معيشيًّا ونفسيًّا وأمنيًّا، وتتفاقم الأزمة لدى غالبية النازحين الذين تركوا من دون أدنى مقومات للعيش ولمواجهة التّدني التّدريجيّ في درجات الحرارة شتاءً، لتدبير أمورهم
وفي سياقٍ مُتصل، أشارت منظمة أطباء بلا حدود ""MSF، في آخر تقريرٍ صدر لها بما يختص بموضوع النازحين جنوبًا، إلى الحاجة الملّحة إلى مواد الإغاثة الأساسيّة، قائلةً: "تصاعدت أعمال العنف خلال الأسابيع الأخيرة مع توجيه القوات الإسرائيلية هجمات عنيفة على المنطقة الحدودية في جنوب لبنان. يحتاج العديد من النازحين إلى مواد الإغاثة الأساسية. وقد نفدت الأدوية من أشخاص آخرين يحتاجونها بانتظام. واستجابةً لهذا الوضع، أرسلت منظمة أطباء بلا حدود الطبية الدولية فرقًا متنقلة لمساعدة النازحين وتزويدهم بالرعاية الصحيّة".
مضيفةً: "جاء التصعيد العسكري ليفاقم أزمة إنسانية مستمرة في لبنان ويزيد من احتياجات السكان صعبة التلبية. فالأزمة الإنسانية في لبنان أتمت عامها الرابع ودفعت بثلثي المواطنين نحو الفقر، فألمّت بقدرتهم على تحمل تكاليف السلع والخدمات الأساسية كالطعام والرعاية الصحية (...) وعلى غرار جميع القطاعات في البلد، يعاني نظام الرعاية الصحية من أعباء الأزمة الاقتصادية التي أثقلت كاهله. في الجنوب، قد تواجه المراكز الصحية المنهكة أساسًا ضغوطًا متزايدة في حال تفاقمت الاحتياجات الطبية للنازحين".
وأفادت الدكتورة عايدة حسوني من فريق أطباء بلا حدود المتنقل، "عندما ينزح السكان، يضطرون إلى ترك منازلهم على حين غرّة، فينقطع العلاج الذي يتلقونه لا سيما في حالات الأمراض المزمنة. وفي ظل انعدام اليقين حول موعد عودتهم، نعمل على سد الفجوات عبر توفير رعاية الأمراض المزمنة. يضمن ذلك إكمال الأفراد لعلاجهم حتى يتمكنوا من العودة إلى حياتهم الطبيعية".
الخسائر البشريّة المُقدرة
وبالإضافة إلى الأضرار الاقتصاديّة والسّياحيّة والخدماتيّة والإنتاجيّة ناهيك بالخسائر الزراعيّة وبالبيئيّة (راجع "المدن")، قُدرت الخسائر البشريّة حتّى لحظة كتابة هذا التّقرير، حسب وكالة فرانس برس، بما يربو عن 200 ضحيّة بين مدنيّ ومقاتل في حزب الله.
تعليقات: