يوم العدالة المهدورة: ماذا بقي من هيبة القضاء؟


صباح يوم الثلاثاء، 23 كانون الأول، وأمام حشد من المحتجين الذين طوقوا محيط قصر عدل بيروت، لأسبابٍ عديدة تنضوي كلها تحت واقع التخاذل المستمر لأهل القضاء عن الإتيان بالعدالة لهم ولغيرهم.. وقف الصحافي رياض طوق، رافعًا بيده مستندًا رسمياً يوثق تحويل الأموال إلى سويسرا التّي قام بها القاضي صبوح سليمان عام 2020. وبهذه الحركة استهل طوق دخوله إلى قصر عدل بيروت، ملبيًا استدعاء المباحث الجنائية له بغية التحقيق في الدعوى المقامة ضدّه بجرم "القدح والذم" التي رفعها القاضي سليمان، ومؤكدًا على أنّ اتهامه لا ينطوي على قدحٍ وذم بل هو اتهام مشروع قائم على الأدلّة والبراهين الملموسة.


صور وأحذية

والتّظاهرة التّي احتلت مدخل قصر العدل، كانت تلبيةً لدعوات أطلقتها عدة مجموعات وتجمعات، خلال الأسبوع الماضي، أولها كانت لتجمع أهالي ضحايا تفجير المرفأ، تفاعلًا مع قرار القاضي صبوح سليمان "بوقف" تنفيذ مذكرة التوقيف الغيابية بحق الوزير السابق يوسف فينيانوس، التي أصدرها القاضي طارق البيطار عام 2021 خلال جلسة استجواب تغيب عنها فينيانوس، معبرين عن استيائهم وغضبهم المطلق للعرقلة المستمرة لمجرى التحقيق بالجريمة التي تسببت بنكبتهم ومأساتهم ومقتل ذويهم، ولعدم وجود أي موقوف أو مشتبه به في ذمة القضاء بهذه القضية حتى اللحظة.

أما الدعوات الأخرى، فأطلقها عدد من المودعين اللبنانيين، وكانت الأخيرة تضامنًا مع رياض طوق، بحضور مجموعة من النواب وأهل القانون وأفراد من الجسم الإعلامي اللبناني، تضامنًا مع طوق واستنكارًا لاتهامه بجرمٍ غير مُسند، بل نابع وحسب من "الامتعاض المستمر من الكاشفين للفساد".

وتجمع المحتجون، عند الساعة العاشرة صباحًا، وحملوا لافتات وشعارات اعتراضية، ومن ثم قاموا بتعليق أوراق كُتب عليها كلمة "بالصرامي". والمقصود منها التوعد بمحاسبة المتورطين في عرقلة التحقيق بقضية المرفأ. ورفعوا صوراً للقضاة والوزراء والوجوه السياسية التي شاركت في العرقلة، وللمطلوبين الذين أُبطلت مذكرات توقيفهم الغيابية، فيما نشروا مجموعة من الأحذية وبداخلها تلك الصور أمام المدخل، تعبيرًا على التوعد بالمحاسبة الشعبية بعد 4 سنوات من الجريمة، خلت من أي مؤشر لنية القضاء اللبناني بكشف حقيقتها.


بديل عن البيطار؟

بعيداً عن الشارع الغاضب، يمكن لأي متابع لملف المرفأ أن يستنتج بأن عودة المحقق العدلي طارق البيطار لن تكون قريبة. ففي قاعات قصر عدل بيروت، يتداول ببعض الحلول التي لم تُطبّق سابقًا لأسباب كثيرة، كتعيين قاض رديف أو إقناع البيطار بترك الملف على اعتبار أن الظروف بات معقدة جدًا، ويتمنون أن يتنحى ويترك الملف لقاض آخر، خصوصًا في ظل العراقيل التي سيطرت على الملف ومنعت تحركه.

ووفقًا للمراجع القضائية الرفيعة، فإن القضية باتت أكثر تعقيدًا ولن تُعالج بسهولة خلال المرحلة الراهنة. بمعنى آخر، القضاء صار عاجزاً تماماً.


اقتحام قاعة التحقيق

وبينما كانت أصوات المحتجين خارج قصر العدل تعلو، لم تكن الأجواء داخله أقل توترًا. فأثناء استماع المباحث الجنائية المركزية لإفادة الإعلامي رياض طوق، بالدعوى المقدمة، وتحديدًا بعدما أشار طوق إلى أن القاضي صبوح سليمان "قبض سلفًا ثمن قرار تعليق مذكرة التوقيف الغيابية الصادرة عن المحقق العدلي في جريمة تفجير مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار بحق الوزير السابق يوسف فنيانوس.. دخل القاضي سليمان بصورة مفاجئة إلى الغرفة، وما لبث أن بدأ هو التحقيق مع طوق، رغمًا عن وجود المحقق والوكلاء لطرفيّ النزاع، وهو واحدٌ منهم. وتطرق إلى سؤاله عن المستندات التي يمتلكها طوق، الأمر الذي اعتبره وكلاء طوق القانونيون، مخالفًا للقوانين مرعية الإجراء وخارجًا عن المألوف، وعبروا عن امتعاضهم، من هذا التصرف. إذ لا يجوز للمدعي نفسه أن يحقق مع المدعى عليه.

وفي نهاية الجلسة قرّر المحامي العام التمييزي القاضي غسان الخوري ختم المحضر على أن يحيله على النيابة العامة في بيروت لاتخاذ الاجراء المناسب.

وعلى أثر انتهاء التحقيق أشارت وكيلة القاضي سليمان المحامية منال أحمد عيتاني إلى أنه "وبعد إجراء التحقيق اليوم في الادعاء المقدم من وكيلها بوجه السيّد رياض طوق وموقع "بيروت تايم" على خلفية قيام الأخير بنشر مقطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي، وتلويحه بإبراز مستند يؤكد مزاعمه،تبيّن أن المستند يؤكد وجود نزاع قانوني بين المصرف المعني وبين صاحب الحساب المصرفي، ابن القاضي سليمان وهو المستشار القانوني الدولي الدكتور أحمد صبّوح الحاج سليمان لدى الأمم المتحدة في جنيف، والذي كان ينازع المصرف المعني دولياً، عبر إرسال إنذارات بواسطة مكتب محاماة سويسري، وبالنتيجة رضخ المصرف المعني لمطالب الدكتور أحمد صبوح الحاج سليمان تجنباً لأي منازعة قضائية دولية".وأكدت أن "كل هذه الوقائع حصلت مع بداية العام 2020، وليس بعد حصول انفجار مرفأ بيروت، وحينها لم يكن القاضي سليمان يتولّى مهام النائب العام العدلي في ملفّ مرفأ بيروت".


بيان مجلس القضاء الأعلى

وعلى إثر ما حدث اليوم، استنكر مجلس القضاء الأعلى التشهير بالقضاة، وجاء في بيانه، "إن حرية التعبير والتجمع والتظاهر مصانة بموجب الدستور، والقضاء حامي الحريات يسهر على ممارستها، إلا أن هذه الممارسة يجب أن تبقى مقيدة بأحكام الدستور والقوانين والأنظمة المرعية الإجراء، بحيث لا يصار إلى التعرض الشخصي للقضاة، حتى لا تنحرف هذه الحرية عن مسارها الصحيح. وتابع: "إن المجلس، إذ يشجب هذه الممارسات التي ستعرض أصحابها ومرتكبيها للملاحقات القانونية، فإنه يهيب بالجميع ممارسة حرية التعبير ضمن الضوابط الدستورية والقانونية الواجبة التطبيق، من دون أي تجاوز يوجب المساءلة، وذلك حفاظًا على هيبة القضاء، الذي يبقى السلطة المخولة الحفاظ على حقوق المواطنين وضمانها".

ومشهدية قصر عدل بيروت اليوم، وبكل ما يحيط بها، لا تعكس سوى هذا الخلاف العميق بين ما يتطلع إليه معظم اللبنانيين والرأي العام وبين ما يمارسه أهل القضاء وأصحاب القرار في أهم القضايا القضائية.

تعليقات: