ما الذي يؤجّج الأجواء الكئيبة في إسرائيل؟


أجمل رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق إيهود باراك الأجواء العامة في إسرائيل بعد انقضاء أكثر من 15 أسبوعًا على الحرب ضد قطاع غزة، التي شنتها إسرائيل في إثر هجوم طوفان الأقصى المباغت لحركة حماس على مواقع عسكرية في منطقة الحدود مع القطاع وعلى ما يعرف باسم "بلدات غلاف غزة"، يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بأنها كئيبة جماهيريًا ومتسمة بشعور عام فحواه أنه على الرغم من إنجازات الجيش فإن حماس لم تتقوّض، وعودة المخطوفين الإسرائيليين المحتجزين في القطاع آخذة بالابتعاد أكثر فأكثر ("هآرتس"، 19/1/2024).

وباراك هو بمثابة نقطة في بحر تعليقات إسرائيلية تتفق مع النتيجة العامة التي نطق بها وتغوص على الأسباب التي أدّت إليها، سواء السياسية أو العسكريّة. وهي تعليقات لمسؤولين سياسيين وعسكريين حاليين وسابقين ولمحللين وكتاب رأي.

وبات من الواضح في الوقت الحالي أن "قصة الحرب الإسرائيلية على غزة" تندرج تحت أسلوبيْن سردييْن إسرائيلييْن، واحد حافل بالتلفيق والتعتيم والتدليس، والآخر منطوٍ على تفاصيل وتوجهات تنقل الواقع وتدحض الأكاذيب.

ولدى مراجعة الكثير من التصريحات الصادرة عن المسؤولين الحاليين السياسيين والعسكريين، بما يسعف أسلوب السرد الثاني، نلفاها طافحة بقدر كبير من الانتقادات لأسلوب السرد الأول التلفيقيّ، لعلّ أبرزها ما يلي:

1) أن سير المعارك في نطاق الحرب الدائرة لا يتأتى عنه تحقيق الأهداف التي وُضعت لها، وفي مقدمها هدف تحقيق انتصار كامل على حماس والذي وصفه حتى الوزير في "كابينيت الحرب" والرئيس السابق لهيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي غادي أيزنكوت بأنه هدف غير واقعي، مؤكدًا أن كل من يتحدث عن إلحاق هزيمة مطلقة بهذه الحركة لا يدلي بالحقيقة ويروي قصصًا خرافية؛

2) أن الحرب لا مستقبل عسكريًا لها، كما نقلت صحيفة "هآرتس" (18/1/2024) عن أحد وزراء المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغّر للشؤون السياسية- الأمنية (الكابينيت) والذي أضاف أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو يعمل على إطالة أمدها كي يهرب إلى الأمام من سؤال المسؤولية (بالأساس عن إخفاق 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023)؛

3) أن هدفي إسرائيل المُعلنيْن من وراء الحرب والمتمثليْن في تدمير حركة حماس وإطلاق المخطوفين الإسرائيليين المحتجزين لديها، غير متوافقين بتاتًا. وآخر من أكّد ذلك، حتى لحظة كتابة هذه السطور، أربعة من كبار قادة الجيش الإسرائيلي تحدثوا إلى صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية التي نشرت أقوالهم يوم السبت الماضي (20/1/2024). ووفقًا لما قاله القادة الأربعة للصحيفة الأميركية، فإن التحديات غير المتوقعة في سياق التعامل مع حركة حماس، وتردّد القادة الإسرائيليين في اتخاذ قرارات، جعلا من غير المرجح إتمام استعادة 130 مخطوفًا إسرائيليًا تحتجزهم هذه الحركة في القطاع إلا من خلال الطرق الدبلوماسية؛

4) أن الحرب لم تتقدّم بحسب الوتيرة التي كانت متوقعة من طرف المؤسسة العسكرية الإسرائيلية عند بدايتها. وبحسب ما نُشر في وسائل إعلام أجنبية، نقلًا عن مصادر عسكرية إسرائيلية رفيعة المستوى، فإنه بالاستناد إلى مراجعة تقييمات الجيش وخططه من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي كان هناك توقّع بأن تكون للجيش سيطرة عملياتية على مدن غزة وخانيونس ورفح بحلول نهاية كانون الأول/ ديسمبر الماضي، ولكن في حين أنه تم تحقيق هذا الهدف في مدينة غزة فإن المعارك في خانيونس لا تزال مستمرة، ولم تبدأ القوات الإسرائيلية بأي عمليات جدية في رفح الواقعة في أقصى جنوب القطاع. وعلاوة على ذلك فوجئت إسرائيل بحجم شبكة أنفاق حماس والذي تناقض كليًّا مع التقييمات بهذا الشأن، وهي السائدة في أروقة المؤسسة الأمنيّة.

ولدى الانتقال إلى ما يكتبه المحللون الإسرائيليون السياسيون منهم والعسكريون وكُتاب الرأي بعد انقضاء أكثر من 15 أسبوعًا على الحرب ضد قطاع غزة لا بُدّ من التوقف سريعًا عند ما يلي:

أولًا، القصور الاستخباراتي:

منذ الأيام الأولى لهجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر ساد في إسرائيل حكم حظي بشبه إجماع مؤداه أن المفاجأة التي انطوى عليها هي استراتيجية بحجم مفاجأة حرب أكتوبر 1973 ("حرب يوم الغفران" في تسميتها الإسرائيلية) ولكنها أشدّ إذلالًا لإسرائيل وهيبتها. وفي الوقت عينه، يفوق الإخفاق الإسرائيلي في التعامل معها الإخفاق في تلك الحرب بكثير، وليس فقط على مستوى الاستشراف الاستخباراتي. وإذا ما تم الأخذ بعين الاعتبار أن الجانب الاستخباراتي الإسرائيلي تطوّر كثيرًا منذ أعوام نصف القرن التي مرّت على حرب 1973، وآل إلى أن تصبح إسرائيل من أكثر الدول تقدّمًا في هذا المجال، إلى جانب مجالات أخرى تتعلق بالتكنولوجيا، وكذلك بالردع وعمليات الإحباط المسبقة، فإن الإخفاق غير مسبوقٍ حتى لدى المقارنة بين الحدثيْن. وفي هذا الصدد تحديدًا، كتب أكثر من معقّب، بينهم السفير الإسرائيلي السابق في الولايات المتحدة، زلمان شوفال، أن هناك من يُقارن الهجوم المباغت الذي شنته حركة حماس بـ "مفاجأة" حرب يوم الغفران. ولكن ينبغي أن نعيد التذكير بأنه في تلك الحرب التي اندلعت قبل خمسين عامًا لم تكن هناك مفاجأة قطّ، بل كان هناك تعتيم آثم وغير مسؤول، من رئيسة الحكومة ووزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، على معلومة استخباراتية أشارت على نحو واضح ولا يقبل التأويل إلى نيّة مصر البدء بالحرب. كذلك كان التقصير أو الإخفاق في حينه من فرع واحد من مؤسّسة الاستخبارات الإسرائيلية، أما الآن فالإخفاق هو لهذه المؤسّسة برمتها التي لم تكن في حيازتها أي ذرّة من المعلومات عن نيّة حماس.

وما زال الكلام حول القصور الاستخباراتي يتبدّى في مظاهر عديدة، أبرزها في الوقت الحالي متعلّق بالجهل شبه المطبق لشبكة الأنفاق، كما ذكرنا آنفًا، ولقدرات حماس العسكرية، مثلما أشار إلى ذلك مثلًا الناطق السابق بلسان الجيش الإسرائيلي آفي بنياهو ("معاريف"، 19/1/2024). وربما يكون المحلل العسكري في قناة التلفزة الإسرائيلية 13 ألون بن دافيد قد انفرد بنشر نبأ مفاجأة الجيش الإسرائيلي وجهاز الأمن العام ("الشاباك") مما وصفه بأنه "الحجم الهائل للصناعات العسكرية في قطاع غزة"، مؤكدًا أن هذه المفاجأة والدهشة تضاعفتا مع اكتشاف النطاق الذي لا يمكن تصوّره لمقدرات حماس على إنتاج الأسلحة والبنية التحتية تحت الأرض ("معاريف"، 19/1/2024). وزعم بن دافيد أن جزءًا بسيطًا جدًا من الأسلحة يصل إلى قطاع غزة عن طريق التهريب عبر مصر، ولذا فإن التحدي القائم لدى الجيش الإسرائيلي في الأعوام المقبلة برأيه، هو تدمير الكميات الهائلة من أسلحة حماس، وتفكيك قدرتها على الصناعات العسكرية، مشيرًا إلى أن الحركة تمتلك قدرة غير متناهية على دعم صفوفها بأشخاص جُدد.

ثانيًا، عن الأجواء في أوساط الرأي العام الإسرائيلي:

ذكر موقع "المؤشر" لاستطلاعات الرأي العام في إسرائيل والذي يشرف عليه المحلل السياسي شموئيل روزنر، أن نسبة اليهود الإسرائيليين الذين كانوا متأكدين من أن إسرائيل ستحقق انتصارًا في الحرب ضد قطاع غزة كانت 75 بالمئة في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي وارتفعت إلى 78 بالمئة في الشهر الذي تلاه (تشرين الثاني/ نوفمبر) ولكنها هبطت إلى 61 بالمئة في كانون الثاني/ يناير الحالي ("معاريف"، 19/1/2024).

وبحسب رأيه يعود سبب هذا الهبوط إلى خيبة الأمل السائدة في صفوف الرأي العام في إسرائيل من تقدّم الحرب بحسب الوتيرة التي روّجت لها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية عند بدايتها.

ولكن تحضر هنا جوانب أخرى منها ما يُحيل على تشكّل الوعي، وزعزعة يقينيات قد تكون ترسخت بفعل عوامل عديدة بينها التلقين، بموجب ما يؤكد روزنر. فكل يوم إضافي لا يتم فيه تحقيق الانتصار ينطوي على مزيد من الأمور التي تثير حنق الجمهور العريض وأبرزها ما يلي: أعداد جديدة من القتلى والجرحى، واتساع نطاق الاحتجاجات ولا سيما فيما يتعلق بملف الأسرى والمخطوفين، واستمرار إجلاء عشرات الألوف من السكان الإسرائيليين عن منازلهم في منطقتي الحدود الجنوبية (مع قطاع غزة) والشمالية (مع لبنان) على خلفية الحرب المندلعة بين إسرائيل وحزب الله، واستمرار ممارسة ضغط دولي على إسرائيل بلغ إحدى ذراه في انعقاد محكمة العدل الدولية في لاهاي لبحث دعوى جنوب أفريقيا التي تتهم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعيّة في قطاع غزة. كما يشدّد على أن مجرّد هبوط الثقة لدى الجمهور العريض بأن إسرائيل ستحقق الانتصار يمس بقدرة هذه الأخيرة على تحقيق انتصار كهذا. ولعلّ في مُجرّد هذا ما يفسّر إصرار رئيس هيئة الأركان العامة على مطالبة الجمهور بأن يتحلّى بالصبر، واتجاه رئيس الحكومة نحو تفنيد التحليلات التي تركّز على الصعوبات التي تعترض الحرب. ويشير روزنر في الوقت ذاته إلى أنه بينما يعرب عموم الجمهور الإسرائيلي عن ثقته النسبية برئيس هيئة الأركان العامة فإن نسبة ثقته برئيس الحكومة تتراوح بين 30-34 بالمئة منذ بدء الحرب!

[يُنشر أيضًا في موقع المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار، رام الله]

تعليقات: