ماذا عن تلكؤ «الشارع» العربي؟

الأستاذ سعد الله مزرعاني
الأستاذ سعد الله مزرعاني


تساءل أكثر من طرف معنيّ: من مواطنين ومحلّلين ومنخرطين في الصراع، عن سبب تخلّف البلدان العربية، أنظمةً وشعوباً، عن دعم كفاح الشعب الفلسطيني في معركته المصيرية الراهنة.

هذا الشعب يخوض، في قطاع غزة، منذ 4 أشهر، معركة شاقة مشرّفة، وصراعاً ضارياً، ويواجه القتل الأعمى، والتهجير الشامل، والتدمير الكلي، والتشريد والتجويع والإبادة الجماعية. وهو يواجه في الضفة الغربية، حملة استباحة وتصفيات دموية وقمع واضطهاد... ما حصيلته، حتى الآن، في القطاع (خصوصاً) والضفة، حوالى 100 ألف شهيد وجريح، فضلاً عن مئات آلاف المشردين وآلاف المعتقلين، قديماً وحديثاً!

أشرت في مقالي الأسبوع الفائت، إلى أن «نقطة الضعف الأساسية، في مجال التضامن مع الكفاح الفلسطيني، كانت، قبل السابع من أكتوبر وبعده، في الموقف الرسمي العربي: في التخلّي والتواطؤ والتطبيع والإذعان». وكذلك في وضع الحركة الشعبية العربية التي لم تتفاعل مع العدوان، بمستوى ما ولّدته حرب الإبادة الصهيونية من نتائج وتحدّيات: على الوضعَين الفلسطيني والعربي. المشروع الصهيوني، لم يستهدف الشعب الفلسطيني وحده. لقد شملت استهدافاته، عبر الاحتلال والحروب والاعتداءات المتكررة، أراضيَ في كل من مصر وسوريا والأردن ولبنان. الغزو والاعتداءات وفّرا له، عبر القوة العسكرية والدعم الاستعماري، مكاسب كبيرة وخطيرة: جغرافية وسياسية واقتصادية وأمنية. وفّرا له أيضاً، أن يفرض اتفاقيات ومعاهدات سياسية وأمنية: لمصلحته، وعلى حساب مصالح الدول العربية المعنية وحقوق الشعب الفلسطيني. بالمقابل، عطّل العدو الصهيوني دائماً كل القرارات الدولية التي طالبته بالانسحاب من الأراضي المحتلة. إلى ذلك، هو لا يزال يحتلّ الجولان السوري، حيث أعلن ضمّه خلافاً لقرارات مجلس الأمن. كذلك هو ما زال يحتلّ بعض المناطق في جنوب لبنان رغم هزيمته وانسحابه الذليل، من معظم الأراضي اللبنانية، عام 2000.

لماذا الوضع العربي، الرسمي والشعبي، على هذه الكيفية من السلبية والتلكؤ؟

لقد طالت الحرب، وهي تنهي اليوم شهرها الرابع، فيما القتل والدمار والتشريد والتجويع والإبادة قد بلغت مدى غير مسبوق. بسبب هذا الوضع المأساوي، وبسبب بطولة مقاومي غزة وصمود مدنييها، الأسطوريين، أُطلقت حملة تضامن عالمية تخللتها تظاهرات هائلة. وهي شملت، أيضاً، عدداً من عواصم ومدن الدول الداعمة للعدوان والشريكة في جرائمه.

ولغرض التضامن كذلك، بادرت جمهورية جنوب أفريقيا، بشكل مهم وفعّال، إلى تقديم شكوى ضد حكومة العدو إلى محكمة العدل الدولية. رغم ذلك كله، فقد اكتفت الأنظمة الرسمية العربية بالتفرّج والمراقبة القلقة (على من وماذا؟)، وببعض المواقف والتحركات الخجولة، فيما هي تستطيع الكثير لو أرادت! وكذلك، إن «الشارع» العربي لم يتحرّك إلا بشكل جزئي ومحدود وهامشي: ما أثار، في الحالتين، الاستغراب أو الاستنكار.

رغم الحرب والانقسام، والتدخّل العسكري القريب والبعيد، ورغم الفقر الذي يجتاح الملايين... استطاعت سلطات صنعاء أن تقدّم، رسمياً وشعبياً، نموذجاً جريئاً متكاملاً وفعّالاً ومدهشاً

إنّ التوقّف عند هذه الظاهرة، في الشق الشعبي منها، ومحاولة تلمّس أسبابها، هو أمر في غاية الأهمية في مجرى بحث لا بُدَّ من الانخراط فيه: من أجل الحاضر، أملاً في تدارك بعض التقصير، وكذلك، من أجل مستقبل مشروع التغيير المنشود:

- السبب الأول، من حيث الأهمية والتأثير، هو القمع الرسمي العربي. وهو قمع موجَّه، من حيث المبدأ، ضد أي حركة شعبية احتجاجية، فكيف إذا كانت للاحتجاج على العدوان الصهيوني المدعوم من حلفاء هذه الأنظمة المتهمة هي نفسها، أساساً، بالتواطؤ وبالتطبيع مع العدو، وبالتبعية لداعميه وشركائه في التآمر والإجرام؟ في هذه الحال، يصبح الاحتجاج ضد المجازر الصهيونية احتجاجاً مباشراً على هذه الأنظمة، أيضاً، وخطراً على سياساتها ووجودها! هذا ينطبق، بشكل خاص، على دول الخليج، وعلى مصر والأردن والمغرب. وهي دول تُدار بأنظمة تابعة، تحكمها ملكيات مطلقة أو ديكتاتورية عسكرية، كما هو الحال في القاهرة.

- ثانياً، ثمة صنف آخر من البلدان التي لم تُشفَ بعد من النسخة الأميركية من «الربيع العربي». السودان آخر النماذج في مسلسل شمل ليبيا وتونس والجزائر، ونسبياً، العراق وسوريا. ههنا صراع مستمر، بدرجات متفاوتة من الحرب الأهلية، على السلطة أو على السياسات، إلى بعض توترات داخلية ذات أبعاد طائفية أو مذهبية أو إثنية. يتّصل بذلك أشكال من الحضور الاحتلالي الأميركي أو التركي أو الغربي أو العربي... لتغذية الانقسام والصراع على السلطة، وخدمةً لخطة الهيمنة الأميركية على المنطقة، ودعماً للتوسع الصهيوني وللتطبيع مع العدو.

في السياق، تجربتا «الإخوان المسلمين» في مصر وتونس اتَّسمتا بالفئوية الشديدة والأخطاء العدة، ما أتاح المجال للعسكر للإمساك بالسلطة (وهو احتياطي تقليدي في جعبة الاستخبارات الأميركية). إنّ خروج مظاهرات في تونس والمغرب، رغم أهميتها، لم تكن بالحجم المطلوب، قياساً على نفوذ «الإخوان المسلمين» في البلدين قبل إبعادهما عن السلطة وإضعافهما في كلا البلدين.

سوريا مستنزفة بالاحتلالات المتعدّدة وببقايا الحرب الداخلية وبالحصار القاتل! الأردن مدين باستقراره وبقائه (!) لواشنطن وللرياض خصوصاً من الناحية الاقتصادية ولتجاوز مخاطر تركيبته الديموغرافية، رغم حركة لا يستهان بها انطلقت في مدن المملكة وشوارعها تضامناً مع غزة ومقاومتها. لسوريا ولبنان والعراق، بدرجات متفاوتة، جامع مشترك في قيام نشاط عسكري (عوّض حركة الشارع أو حال دونها) موجَّه لدعم المقاومة في غزّة، كما هو الأمر في لبنان منذ اليوم الثاني لعملية «طوفان الأقصى». ومن العراق وسوريا، انطلقت الصواريخ ضد القواعد الأميركية، وآخرها في الجانب السوري من الحدود مع الأردن، وأدَّت إلى مقتل 3 جنود أميركيين وإصابة العشرات منهم. أهمية ذلك سياسية وليست عسكرية فقط: من حيث استهداف قوات أميركية محتلة، ووجود أميركي دائم الدعم للصهاينة وخصوصاً في الصراع الراهن.

- ثالثاً، من أسباب ضعف التضامن في الشارع الشعبي أيضاً، تراجع دور قوى التحرر والتغيير التقليدية، بمسمياتها جميعها: القومية والاشتراكية والشيوعية... وهو تراجع مخلّ في القدرة على المشاركة وممارسة التأثير، راهناً، وحتى في المستقبل، إذا ما استمرّ الضعف الحالي.

لقد نمت في العقدين الأخيرين حركات «مدنية» تُوجّهها، سياسةً وتمويلاً، الأجهزة الأميركية والغربية. وهي قد حجزت جزءاً من الشارع وضلّلته، رافعة شعارات معادية للحرب ضد الصهاينة ضمناً!

- رابعاً، لن ننسى أيضاً، مناخ اليأس الذي ساد طويلاً، بعد تجارب فاشلة وخيبات ونكسات وارتداد وانكفاء... وهو ترك في الأذهان والنفوس آثاراً سلبيةً تراوح بين اللامبالاة والعبثية والاستسلام.

شذّ عن ذلك كلّه اليمن! رغم الحرب والانقسام، والتدخل العسكري القريب والبعيد، ورغم الفقر الذي يجتاح الملايين... استطاعت سلطات صنعاء أن تقدّم، رسمياً وشعبياً، نموذجاً جريئاً متكاملاً وفعّالاً ومدهشاً!

ثمة حاجة كبيرة وملحّة لتفحّص ما ذُكر وما لم يُذكر كله، لإطلاق حركة نهوض تستنفر الطاقات كلها وتطورها وتجنّدها في هذه المعركة المصيرية المفتوحة: مع المستعمرين والصهاينة وأدواتهم المحليّين!


سعد الله مزرعاني

* كاتب وسياسي لبناني

تعليقات: