الدولة تتحول إلى دراكولا ضرائب.. ولا أموال لزيادة الرواتب

يعيش لبنان لعبة لا تمتلك الدولة خلالها استراتيجية لإدارة الأزمة (مصطفى جمال الدين)
يعيش لبنان لعبة لا تمتلك الدولة خلالها استراتيجية لإدارة الأزمة (مصطفى جمال الدين)


يدخل موظّفو القطاع العام في معركة مع السلطة السياسية، بهدف الضغط عليها لإيجاد حلّ مناسب يصحِّح رواتبهم وأجورهم ومعاشاتهم التقاعدية. ولا تختلف المعاناة في الجوهر بين الموظّفين في الخدمة الفعلية وبين المتقاعدين. ففي الحالتين، لا تكفيهم التقديمات التي يحصلون عليها على شكل حوافز وزيادات. وفي محاولة لزيادة الضغط، دخل موظّفو الإدارات العامة في إضراب عام، واتجه العسكريون المتقاعدون إلى الاعتصامات في الشوارع، آخرها كان يوم أمس الثلاثاء، وسيتبعها إقفال لمداخل مجلس الوزراء، يوم الخميس المقبل، لمنع انعقاد الجلسة "حتى إشعار آخر ولغاية إحقاق العدالة والمساواة"، وفق ما جاء في بيان صدر عن تجمع العسكريين المتقاعدين.


الحاجة لمصادر تمويل

الثابت هو أن السلطة السياسية أخفَت حجم موظّفي القطاع العام على مدى عقود. فأطلقت أرقاماً غير محدَّدة، تراوحت بين 250 ألفاً و300 ألف موظَّف. والقصد من عدم التحديد، هو إخفاء الحجم الفعلي للأموال التي تدفعها الدولة كنفقات عامة على موظّفي القطاع العام، وتجهيل أين تذهب تلك النفقات ومَن الذي يستفيد منها حقيقةً.

وفي جميع الأحوال، فإن ما كان يتقاضاه الموظّفون في الأسلاك المدنية والعسكرية، اتّضَحَ عقب الأزمة التي انفجرت في العام 2019، أن مصدر تمويله هو أموال المودعين التي استمرَّت بتغطية النفقات العامة خلال الأزمة، تحت ستار ما عُرِفَ بدعم الاستيراد. وبنضوب هذا المصدر، ذهبت السلطة عبر موازناتها خلال الأزمة، نحو زيادة الضرائب والرسوم، ففاضت الموازنات بزيادة الضرائب والرسوم. واليوم، لا تمتلك السلطة غير هذا الباب للحصول على التمويل.

وتزداد الحاجة لمصادر التمويل في العام الجاري، مع تضمين موازنة العام 2024 "لزيادة في الإنفاق بنحو 50 بالمئة، أي من نحو 200 تريليون ليرة إلى نحو 300 تريليون ليرة"، وفق ما يؤكّده الخبير الاقتصادي باتريك مارديني، الذي يشير في حديث لـ"المدن"، إلى أن الدولة، وفي معرض تحقيقها للمداخيل "قدّرَت زيادة مداخيلها في العام الجاري، بنحو 15 بالمئة مقارنة مع المداخيل المحقّقة في العام الماضي، وهو رقم خيالي في بلد يعاني من أزمة ويتوقَّع في العام 2024 تحقيق نمو اقتصادي يبلغ 1 بالمئة وفي أحسن الأحوال قد يرتفع إلى نحو 1.7 بالمئة".


خطر على الرواتب الحالية

مع رفع الدولة لسقف حاجتها للإنفاق، بالتوازي مع حاجتها لزيادة التقديمات التي تدفعها لموظّفيها ومتقاعديها، يزداد الخطر من الانعطافة المفاجئة التي قد تحصل، وهي الوصول إلى وقت لا تستطيع فيه الدولة دفع رواتب موظّفيها. ولا يستبعد مارديني هذا السيناريو "فالدولة لا تملك المال لدفع الرواتب الحالية للعام 2024، فكيف لزيادة تلك الرواتب" كما يطالب الموظّفون والمتقاعدون؟

وأمام هذا المشهد "ستضطر الدولة إلى البحث عن طرق لزيادة الضرائب والرسوم لتأمين التمويل لدفع الرواتب وزيادتها"، على حد تعبير مصادر متابعة لملف الرواتب والأجور. ويتقاطع كلام المصادر مع ما يقوله مارديني في نقطة جوهرية، وهي حجم القطاع العام الذي لا يزال كبيراً. فتشير المصادر في حديث لـ"المدن"، إلى أنه من غير المقبول أن يتوسَّعَ حجم القطاع العام في لبنان إلى هذا الحدّ مقارنة مع حجم الاقتصاد. إذ أن "القطاع العام في لبنان كان يمثّل قبل الأزمة نحو 32 بالمئة من حجم الاقتصاد، في حين أن القطاع العام في فرنسا يمثّل نحو 12 بالمئة من الاقتصاد". وهذا الحجم الكبير يزيد الضغط على الدولة لضمان استدامة مداخيلها، التي ستوظّف جلّها في دفع الرواتب وتأمين الطبابة والمعاشات التقاعدية... وغيرها من المداخيل التي يحتاجها موظّفو القطاع العام.

تأمين الرواتب والأجور وزياداتها ضمن عملية تصحيح حقيقية، يبدأ من تفعيل النشاط الاقتصادي وتشجيع الاستثمارات "ليس على شاكلة استثمارات بعض التجّار المحتكرين في لبنان"، على حد توصيف المصادر، التي ترى بأن النشاط الاقتصادي "لا يعني مجرَّد عملية استيراد بعض السلع وبيعها في السوق. فما يحصل من قِبَل كبار التجّار هو عملية تواطؤ وتدمير للاقتصاد".

ولتشجيع الاستثمارات وتنشيط الاقتصاد، يؤيّد الخبير الاقتصادي جاسم عجاقة "الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتحرير بعض القطاعات مثل قطاع الكهرباء". ويلفت النظر في حديث لـ"المدن"، إلى أن الشراكة بين القطاعين العام والخاص في ملف الكهرباء "قادرة على تخفيض عدد موظّفي هذ االقطاع من دون التسبُّب بمجزرة اجتماعية". ويشرح أن على الدولة في حال اعتمدت هذا الخيار، أن "تُلزِم القطاع الخاص بتشغيل الموظفين الحاليين، لمدة سنتين مثلاً، وبعدها يمكن الاستغناء عن خدمات مَن لا يثبت إنتاجيّته".

بالتوازي، يرى مارديني أن على الدولة "تسهيل خروج الموظّفين من القطاع العام والاندماج في القطاع الخاص. فالكثير من العسكريين اليوم يعملون في مِهَن حرة وفي القطاع الخاص، بالإضافة إلى بعض موظّفي القطاع العام المدنيين. وهذا التسهيل يستتبع إعادة هيكلة القطاع العام وتخفيض حجمه. والاقتصاد اللبناني بحاجة إلى نصف عدد الموظّفين الحاليين، وبعدها يمكن للدولة تصحيح الأجور لمن تَبَقّى في القطاع العام. وعلى عكس ذلك، نكون أمام تمديد لأزمة أجور القطاع العام". وإعادة الهيكلة باتت حاجة ضرورية لأن القطاع العام تضخَّمَ كثيراً من فَرط التوظيف السياسي-الطائفي الذي كان سبباً في هدر الأموال واستنزاف الودائع التي كانت تُستَعمَل لتمويل حاجة الدولة لتهدئة موظّفيها، على شكل زيادات عشوائية في الأجور، كان أبرزها سلسلة الرتب والرواتب في العام 2017، والتي لم يستند إقرارها إلى تأمين التمويل الفعلي من دون المسّ بأموال الناس.

أوصلت السلطة السياسية نفسها والبلد إلى مرحلة يدور فيها الجميع ضمن "حلقة مفرغة". فزيادة الرواتب والأجور يعني ضمان تغطية النفقات العامة، لكنه يعني زيادة الضرائب والرسوم لتمويل زيادة الرواتب. وعلى هذا المنوال، يعيش لبنان لعبة لا تمتلك الدولة خلالها استراتيجية لإدارة الأزمة، في حين "يفترض عليها مصارحة الموظّفين بعدم وجود الأموال لزيادة الرواتب والأجور".

وردّاً على هذا التوجّه، يطالب تجمّع العسكريين المتقاعدين بـ"احتساب نسبة موحّدة من القيمة الفعلية للرواتب قبل عام 2019 لكل القطاع العام. إلغاء كافة الزيادات والعلاوات والصناديق التي منحت لفئات محددة من موظفي القطاع العام. ألاّ تقل الزيادة عن تأمين الحد الأدنى للعيش الكريم للفئات والرتب الدنيا. إقرار خطة للتصحيح المرحلي المستدام للرواتب والأجور وفقاً لتطور مداخيل الدولة وبما يضمن الاستقرار النقدي. وجوب إدماج جزء من الزيادة في أساس الراتب حفظاً لحق الموظف بتعويض تقاعدي عادل. وضع خطة مع مفعول رجعي لتصحيح قيمة التعويضات التقاعدية وفقاً لسعر صرف عادل للدولار".

تعليقات: