شربل نحاس: الدولة تنظّم التسوّل والهجرة


مقابلة فؤاد بزي، كريم الأمين، ماهر سلامة

نحن الآن في مسار «الموت الرحيم»

بدّدوا الموارد في محاولة تقليل الخسائر


بالنسبة إلى شربل نحاس، الانهيار واضح لمن يريد القراءة. إعادة قراءته كل مرّة أمر ضروري لاستقراء مسار البلاد الذي يصفه بأنه «هاوية» سببها المكابرة والزبائنية. فالناس يعيشون اليوم مرحلة الانتقال نحو التصفية أو يسمّيه «الموت الرحيم»، لأن الطبقة السياسية تطيل مدّتها عبر تبديد الموارد. في الحقبة الجديدة للبنان لن يبقى اللبنانيون أكثرية في بلادهم، بل سيكونون مهاجرين، مردودهم لا ينصرف في الإنتاج المحلي، بل في التحويلات المالية


هل تعتقد أنه يجب الغوص في مرحلة مسار الخروج من الانهيار والتوقف عن الغوص في مرحلة مسبّباته؟

- لا يمكن الفصل بين مسبّبات الانهيار عن مسار الخروج منه. هناك ثلاث سرديات قائمة؛

الأولى أن هناك فساداً مستشرياً في لبنان يجب أن نستأصله. والفساد له تفسيرات ضيّقة وواسعة. التفسيرات الضيّقة متعدّدة، بعضها يشير إلى أن رياض سلامة فاسد، والقطاع الخاص يرى الدولة بكاملها فاسدة.

السردية الثانية قائمة على رمي المشكلة على أطراف دولية بين لبنانيين ينحازون إلى إيران، ولبنانيين ينحازون إلى أميركا. وبالتالي بمجرّد توقّف أيٍّ من الطرفين عن التخريب، تنتهي القصّة.

الثالثة تشير إلى أن لبنان بلد لا منطق دولة فيه، ولا حدود للخارج والداخل. فعندما يتّفق الخارج المؤثّر، تصبح الأمور في لبنان جيّدة، وعند الاختلاف، تتعقّد. كما أنّ الرهانات الداخلية تلعب دورها أيضاً. الحل في إقفال هذه الدكانة، وهو أمر صعب جداً، إذ يفترض ذلك إنهاء حقبة تاريخية، والانتقال إلى نظامٍ آخر.


هل تعتقد بأن هذه السرديات طغت على جذور الأزمة، وبالتالي على إمكانية الحلّ؟

- بعكس زعم إحدى السرديات، بأنّ التعقيدات الخارجية هي سبب الأزمة، يتبيّن أنّ هذه التعقيدات لم تؤثّر في المسارات المالية. فخلال مرحلة التفجيرات والاغتيالات عام 2005، وما تبعها من همروجة لـ 8 آذار و14 آذار، لم يتأثّر الدولار. عدوان تموز 2006 لم يؤثّر في سعر الصرف أيضاً. هذا الوضع شهدناه تاريخياً. خلال الحرب الأهلية، تحسّن سعر صرف الليرة مقارنةً بالدولار بنسبة 41%. وبعد حرب السنتين (1975-1976)، انخفضت الودائع قليلاً، وبقي سعر صرف الليرة مقبولاً، بل تحسّن، ونسبة الودائع بالليرة مقارنةً بالدولار بقيت على حالها. بعد حرب السنتين، وصلت أموال النفط العربي ومعها المال السياسي إلى لبنان، وخلال 10 سنوات لم يتغيّر سعر الصرف بشكل لافت. بعد اجتياح 1982، ورغم ضراوة الحرب، زادت الودائع بقيمة 4 مليارات دولار. لكن، بدءاً من عام 1984، فُقدت الليرة من الودائع، وبدأ النزول. في وقتها لم يفلس أي مصرف، لأن المصارف لم تقرض الدولة ولا المواطنين بالعملة الأجنبية، ولم تكن هناك قروض استهلاكية، بل غالبيتها كانت قروضاً مضمونة بسلع.

بنتيجة النظام المالي الجديد الذي بدأت تظهر ملامحه بعد الاجتياح، تغيّر الاقتصاد، وبدأنا نرى مجتمعاً قائماً على استهلاك الموارد المالية ويشجّع الهجرة لاستقدام عملة أجنبية.

عملياً، أصبح الدولار عملة قياس للممتلكات والديون، واستمرّ الأمر حتى اليوم، بينما أصبحت الليرة أداة للمغامرة في الكازينو. إذا اشتريت ليرة وخسرت، تسكت، وخير دليل أنّ الودائع بالليرة مسكوت عنها. كل جمعيات المودعين تتحدث عن الودائع بالدولار فقط.

وفي التسعينيات، جرى ترتيب الهدنة بين الميليشيات عبر اتفاق الطائف الذي أعطى شكلاً مؤسسياً للنظام الجديد. وتم تثبيت سعر صرف الدولار، والترويج لتوزيع المغانم باعتباره «تعايشاً»، وسُلّمت إدارة التحويلات وضخّها في الداخل إلى شخص «شاطر» اسمه رياض سلامة. واستمرار قيام الحلقة المالية بإمداد النظام بتحويلات من الخارج يتطلّب وجود «الثقة» التي خُلقت بفعل ادّعاء أنّ الأموال موجودة في المصارف أو بقيمة الأرض والعقارات. فإذا اقتنع مرسل الأموال أنّ قيمتها موجودة، يواصل ذلك، وإذا صرفها، يكون الوضع أفضل. وفي النتيجة عاش الشعب في مستوى من الاستهلاك يفوق الإنتاج بـ25%.


هل كان ممكناً تفادي الإفلاس والفشل؟

- فشل النظام المالي كان محتوماً. في أواخر التسعينيات ظهر عمق المشكلة، ثم اتُّخذت قرارات حاسمة في 1997 للاستمرار فيه، وذلك بعد فشل حكومة الحص في تعديل السياسات المالية رغم الأوضاع السياسية المؤاتية. في عام 1998 تبيّن أن النمط أدّى إلى ارتفاع في الأسعار الداخلية بنسبة 250% قياساً على الأسعار في أميركا. (القدرة الشرائية في لبنان ازدادت مرتين ونصف المرة مقارنة مع أميركا). وبالتالي كانت أي سلعة مستوردة، هي حتماً أرخص من تلك مثيلتها المصنعة محلّياً. والمنتج الوطني ليس مغرياً للتصدير بسبب كلفته المرتفعة. في ظل هذا الوضع، أي قطاع إنتاجي يمكنه العمل في لبنان؟

كان يجب الوصول إلى الإفلاس قبل 20 سنة من عام 2019، أي في عام 1998. لكن تقرّرت المكابرة.

أولاً، جرى توقيف كل الاستثمارات، ولهذا السبب لدينا محطات تكرير بلا مجارير، ومجارير بلا تكرير.

ثانياً، لجأوا إلى تقنين الكهرباء باعتبارها الطريقة الوحيدة لتخفيف خروج الدولارات، لأن الفيول المستورد يستهلكها. كذلك جرى الحفاظ على أسعار اتصالات خيالية لأنّها تُدخل دولارات إلى الخزينة بعكس الكهرباء التي تُدخل ليرات.

ثالثاً، تمّت السيطرة على النقابات العمالية بعد تجميد الأجور.

رابعاً، الحفاظ على مستوى واحد من الأسعار. هنا أبدى رياض سلامة براعة استثنائية تمثّلت في تسارع نموّ الودائع بشكل رهيب واستقدام أموال غير المقيمين للمحافظة على نمط العيش.

في عام 2005 عاد خطر الإفلاس، فأتى مؤتمر باريس 2 على شكل إنقاذ، إنما سببه الفعلي احتلال العراق والخوف من تغيير شكل المنطقة. وفي عام 2011 تكرّر الأمر نفسه، ولكن بغياب المؤتمرات الدولية، لجأ رياض سلامة إلى تأخير الإفلاس لعدّة سنوات عبر الهندسات المالية. يُلام رياض سلامة الآن، ولكنه هو من أبقى الخديعة قائمة لعشرات السنين، ولسان حاله: «لو كنتم وحدكم، لما بقيتم أسبوعين». وهناك برهان على صحّة كلامه، هو الموازنة التي نراها الآن.


أثناء مناقشات موازنة 2024 قال رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إن التعافي بدأ. وهذا الأمر نراه في الأسعار التي استعادت مستوياتها السابقة، وفي الهجرة... هل هذه مؤشرات للتعافي؟ أي تعافي هو المقصود؟

- ما يجري اليوم هو تكيّف يشمل تنظيم التسوّل والهجرة الهائلة وما بينهما. عملياً الناس ترتّب أمورها للهريبة. ظاهرة الهجرة ليست مزحة. الشباب بلا استثناء يريدون الهجرة. اللبنانيون يخافون من انفراط الهدنة في الداخل. لكن رغم كل الانفراط الحاصل مالياً وقضائياً وأمنياً، فإننا لا نرى العنف، وهذا أمر لافت. فلو انقطعت الكهرباء في أي دولة، يندلع العنف ويموت أشخاص بسبب ذلك. أما في لبنان، فالناس يعيشون بقلق مستحكم من عودة الحرب، وباتوا اليوم أمام قلق إضافي من تبخّر الأموال. لذا، إنّ ردّة فعلهم هي ترتيب هجرة الأبناء والبحث عن جمعية غير حكومية للحصول على دولارات منها.


انهيار النموذج لا يعني فعلاً الانتقال نحو حقبة جديدة، إذ ما زلنا في المرحلة الانتقالية التي امتدّت لأكثر من خمس سنوات، فيما الآن يجري التسويق للتعافي؟

الانتقال من أمر لم يعد قائماً إلى أمر لم يتبلور بعد، ليس مساراً لحظوياً. فعلى سبيل المثال، احتاج النموذج، الذي ينتهي اليوم، من عام 1984 حتى عام 1992 حتى يظهر بوضوح. بمعنى أنّ الانتقال من النموذج السابق إلى النموذج الحالي استغرق 8 سنوات. المرحلة الانتقالية تمتدّ على مدة زمنية طويلة، والمشكلة أنه يجب إقناع الناس بأنّ ما كانوا يعدّونه نموذجاً، لم يعد قابلاً للاستمرار، وأنه يجب إدارة هذه المرحلة الانتقالية بعقلانية وجرأة. لكن ما يحصل اليوم، هو أن السلطة ترمي اللوم على الآخرين. هذا المسار يأخذنا نحو الهاوية.


ما هي الهاوية التي تشير إليها؟ وهل هناك مسار آخر يمكن اللجوء إليه؟

- المسار الحالي هو مسار الهاوية أو المسار التلقائي الذي بدأ في 2019. هناك أمور تحصل ولكن الناس لا يرونها، مثل التغيّرات في البنية العمرية للمجتمع. يمكن النظر إلى هذه البنية على مستوى المهن والكفاءات المهنية، أو على صعيد التنظيم الشكلي للمقيمين بين لبنانيين وغير لبنانيين. عملياً، كل التوازنات التي كان المجتمع معتاداً عليها، تتبدّل ويركب بدلاً منها وبسرعة فائقة وقائع جديدة مختلفة.

أيضاً في هذا المسار يتم تأمين المرحلة الانتقالية بشروط جديدة، وهي:

- لم يعد هناك ليرة، أي إنّ مصرف لبنان يستطيع تثبيت الليرة بأي سعر صرف يريده من دون أن يكون لهذا الأمر تأثيرات واسعة، إذ إنّ الليرة لم تعد مهمّة في التداول.

- الحفاظ على هذه الآلية المالية المتمثّلة بالمصارف اللبنانية المفلسة، فيتم تعطيل إمكانية التسليف المتصلة مباشرة بالاستثمار.

- التحويلات الآتية من الخارج أصبحت بكميات لافتة، ونسبتها إلى الناتج صارت أعلى مما كانت عليه. هذا الأمر يحصل بسبب نفاد المخزون المالي الذي كان موجوداً في البلد (أي الذي كان لدى مصرف لبنان والأفراد).

- هناك أمر إضافي يحتاج إلى «شطارة»، وهو أن لبنان الوحيد في العالم القادر على أن يأتي بمساعدات علنية من أميركا ومن إيران في الوقت نفسه.

بلا هذه الشروط، لما كان التكيّف يحصل على شكل «الموت الرحيم» الذي نعيشه. وهو يحصل لأن الناس اعتادوا على هذا النمط في العيش.


مع الهجرات المتداخلة، من لبنان وإليه، وعلى مدى 10 سنوات مقبلة، كيف سيستقرّ شكل المجتمع؟

انفجار الوضع الاجتماعي ممكن من جهة، ويمكن التعامل معه بشكل لا يسمح بالانفجار من جهة ثانية، إنّما هذا يحتاج إلى نظام شبه عسكري، أي إلى تفاهم إيراني أميركي، يُترجم عبر العمل بين الجيش وحزب الله لإدارة هذا النظام. لكن يمكن أيضاً أن يتقسّم البلد، وكل خريطة الإقليم تتغيّر. كلّ المسارات الموجودة مرشحة للحصول على الأرض، ولكن، حتى اليوم، لا يشبه أي منها ما هو متخيّل في عقول اللبنانيين.

فشل النظام المالي كان محتوماً، أما الدولة، فهي تدير الآن تصفية


كيف تصف الطريقة التي أدارت فيها السلطة توزيع الخسائر والموارد؟


مواكبة الموت الرحيم بشطارة، وهذا ما نسميه اقتصاد الرداءة. أدارت السلطة هذه العملية وفقاً لمنطقها الذي اعتادت عليه من دون أي تردّد أمام أداء عنوانه التصفية التي تُدار لأنها منسجمة مع الأدوار التي يلعبها كل واحد من الزعماء. فقد كان لافتاً، مثلاً، أن هناك إجماع بينهم في التصويت على الدولار الطالبي، ولكن مقاربة الأمر على شكل ما كان قائماً، يشير إلى أنّ الغاية واحدة، وهي تتعلق بتنظيم هجرة المزيد من الطلّاب اللبنانيين مقابل المردود المستقبلي في تحويلاتهم.


أليس تمويل هجرة الشباب هو تمويل لاقتصاد الدول التي يهاجرون إليها؟ استرجاع شباب لبنان من المهجر هو خطوة شعبية؟


طبعاً ليست خطوة شعبية. كل سنة يخرج آلاف الطلاب من عدّة قطاعات ومجالات إلى الخارج، وندفع عبر أهالي هؤلاء الطلاب أو عبر الجامعة اللبنانية تمويل هذه الهجرة.

أنا لا أتهمهم بأنهم يقصدون التصفية، بل أسوأ. هم لا يعرفون العمل إلا بهذه الطريقة. وكل الشعارات المرفوعة مثل أموال المودعين المقدسة، واللامركزية المالية الموسعة، كلّها تنسجم بدقّة مع دور الزعيم، والدفاع عن جماعته. يحاولون تبديد الموارد للتقليل من الخسائر (سياسة دعم، الدولار الطالبي). وعندما تتبدّد الموارد كلياً، وهم يحاولون عكس ذلك، ممكن أن تنفجر الحرب.


يُلام رياض سلامة الآن، ولكنه أبقى الخديعة قائمة لعشرات السنين


إذا افترضنا أننا بدأنا الآن العمل من نقطة الصفر بطريقة صحيحة، ما هو شكل الاقتصاد السياسي الممكن لهذا البلد؟


نحتاج إلى مرحلة انتقالية لكي ننقل الوضع إلى سكة مختلفة. السكة الجديدة ستواجَه بممانعة، لأن المجتمع والزعماء، عموماً، يعتقدون أن المسار الذي نحن عليه أسلَم وأصَحّ. لا يكتفون من ترداد أن سعر الأرض ارتفع، والأولاد «مشي حالن» وهاجروا... ولكنهم رغم ذلك لا يرون المقيمين السوريين إلا في ما يخصّ موقفهم منهم: مع أو ضدّ. لا يرون التغيرات الديموغرافية التي تحدث بوجودهم.


عن المصارف ودورها

المصارف لا تُعدّ قطاعاً قادراً على القيام بالبلاد وحده، فهي لا تنتج مالاً. المصرف يؤدّي خدمات تسهم في الإنتاج، وهو مثل شركات تحويل الأموال، يسهّل الحياة مقابل عمولات، ولكن أرباح المصارف ليست إضافةً على الإنتاج. الاقتصاد المحلّي في عجز دائم مع الخارج، لذا لا يمكنك أن تحصّل منه أي دولار، بل لتُبقي عمل الاقتصاد المحلّي، عليك أن تُحصّل له دولارات إضافية من الخارج. السبب أنّ الاقتصاد اللبناني يستورد أكثر مما يُصدّر. بمعنى أنه إذا قام المصرف بعملية تسليف للاستهلاك المحلّي بالدولار، فهذا التسليف هو خسارة حتمية بالمجمل، إلّا إذا استطاع أن يجد أشخاصاً جُدداً يأتون بدولارات لاستبدال تلك التي سلّفها المصرف للاستهلاك.

تعليقات: