تحريك قضية اختلاس مليوني دولار بسفارة لبنان في قطر

بات الملف بقبضة قاضي التحقيق في بيروت (علي علوش)
بات الملف بقبضة قاضي التحقيق في بيروت (علي علوش)


قضايا اختلاس ونهب أموال الدولة التي تُكتشف داخل مؤسسات وسفارات لبنان الرسمية، هي مُحصلة لمسار طويل من التسيّب والاهمال ونتيجة لمنطق الإفلات من العقاب. ولعلّ المهانة الكبرى التي تطال الدولة اللبنانية، هي أن غالبية ملفات الفساد وتبييض الأموال التي تدين كل متورط، قد طُويت مع الزمن وضاعت المسؤوليات وكأن شيئًا لم يكن.


"سرقة أموال الدولة"

عام 2019، طلبت وزارة الخارجية والمغتربين من البعثة الدبلوماسية لها في قطر تسلّم مبلغ من المال كانت بحاجة إليه لشراء مبنى للقنصلية اللبنانية في نيويورك، فتلعثمت البعثة في الكلام، وطلبت عدة أيام بحجة أن المبلغ "ضخم" ولن تتمكن من تحويله بسهولة من قطر إلى بيروت. وبعد أيام من المماطلة اكتشفت وزارة الخارجية والمغتربين أن المبلغ لن يُحوّل، لأنه غير متوفر داخل السفارة اللبنانية في قطر، أو بمعنى أدق المبلغ "مسروق" والأموال تبخرت، وقيمة هذا المبلغ هي مليوني دولار أميركي.

فُتحت التحقيقات آنذاك، وحُولت بعثة تفتيش إلى قطر للتدقيق في حسابات السفارة، وادعى النائب العام المالي القاضي علي إبراهيم، على المحاسب المالي في السفارة اللبنانية في قطر بجرائم "اختلاس أموال عامة وتزوير واستعمال المزور". وحسب مصادر قضائية بارزة لـ"المدن"، المحاسب المالي كان من المشتبه بهم، واعترف خلال التحقيقات بسرقة المبلغ، وبدّل أقواله عدة مرات. وتم توقيفه وقضى عاماً كاملًا داخل السجن، وأخلي سبيله ولكنه لا يزال قيد المحاكمة. دخلت هذه القضية في دوامة طويلة داخل القضاء اللبناني، فمحامي الدولة اللبنانية تقدم بشكوى أمام قاضي التحقيق في بيروت ضد السفيرين (ح.س) و(ح.ن) خلال ولايتهما في السفارة اللبنانية في قطر بين عامي 2013 و2019، وقدم المدعى عليهما الدفوع الشكلية على اعتبار أن القضاء اللبناني بحاجة إلى إذن لملاحقتهما.


تحريك القضية

توسعت التحقيقات، وادعت النيابة العامة على أحد السفراء باختلاس المال العام والتزوير، وعلى أحد الموظفين المسؤول عن متابعة الأمور المالية بجرم "الإهمال الوظيفي".

أما اليوم، فبات الملف بقبضة قاضي التحقيق في بيروت، أسعد بيرم، وتحرك الملف من جديد وعاد إلى الواجهة مرة أخرى. وحسب معلومات "المدن"، التحقيقات ستتوسع وسيتم الاستماع إلى مجموعة من الشهود في هذا الملف، ومن المتوقع أن يتم الاستماع إلى عميد الجالية اللبنانية في قطر المتقاعد بصفة "شاهد".

قد يكون معيبًا التذكير بمسؤوليات البعثة الدبلوماسية تجاه الدولة اللبنانية وأهمها المحافظة على الأموال العامة وعدم سرقتها. كما أن هناك العديد من المسؤوليات التي تقع على عاتق وزارة المالية، حيث تبين خلال التحقيقات أمام القضاء اللبناني أن وزارة المالية وافقت وسمحت للبعثة بإبقاء الأموال داخل السفارة اللبنانية في قطر وعدم تحويلها إلى لبنان خلال كل فترة، كما وأظهرت التحقيقات أيضًا أن الأصول المصرفية التي قُدمت للقضاء اللبناني كانت مزروة، أي أن التحويلات المالية لم تُحول من قطر إلى لبنان خلال عدة سنوات وقدرت جميعها بمليوني دولار أميركي. وحين احتاجت وزارة الخارجية والمغتربين هذا المبلغ لشراء مبنى للقنصلية اللبنانية، تبين أن المبلغ مسروق.


"إرث" الإفلات من العقاب..

فُضحت تفاصيل هذه القضية وكُشفت أمام الرأي العام عن طريق "الصدفة"، ولو أن وزارة الخارجية والمغتربين لم تطالب بالمبلغ المالي، لكانت هذه التفاصيل لا تزال طي الكتمان. ولعل خطورة هذا الأمر اليوم، أن أذرع الاختلاس باتت تطال العديد من السفارات اللبنانية في مختلف البلدان، وباتت تؤكد أن معظم من حظي بصلاحيات واسعة داخل الدولة اللبنانية وتولى مناصب رفيعة كان يمتهن "أخلاقيات اللصوص"، لأنه يعلم جيدًا أن الدولة اللبنانية لن تلاحقه ولن تعاقبه، بل من الممكن أن يتولى مناصب رفيعة أخرى بعد عدة سنوات.

عام 2023، اتهم السفير اللبناني في فرنسا، رامي عدوان، بقضية اغتصاب وبممارسات عنفية، والملف تجمّد قضائيًا ولم يُحرك منذ أشهر طويلة. في العام نفسه، توقفت التحقيقات بملف الاختلاس في السفارة اللبنانية في أوكرانيا التي قدرت بحوالى 330 ألف دولار أميركي. وأيضًا، توقف ملف حاكم مصرف لبنان السابق، رياض سلامة، المتهم بقضايا اختلاس المال العام والتزوير وغيرها، وفي قضية المرفأ أيضًا، جُمّد الملف وتوقفت التحقيقات.

وعلى ما يبدو، فإن الدولة اللبنانية المفلسة ستكتشف خلال السنوات المقبلة، الكثير من قضايا الفساد والاختلاس داخل سفاراتها المتوزعة في البلدان، وسيكون ذلك نتيجة المسار القائم على منطق الإفلات من العقاب والتسيب التي تنتهجه الدولة اللبنانية.

تعليقات: