محاولات السلطة لاختراق إضراب الموظّفين: لا رواتب آخر الشهر؟

تضع السلطة السياسية الموظّفين والمتقاعدين والناس في مواجهة بعضهم (مصطفى جمال الدين)
تضع السلطة السياسية الموظّفين والمتقاعدين والناس في مواجهة بعضهم (مصطفى جمال الدين)


نجحَ العسكريون المتقاعدون في منع انعقاد جلسة مجلس الوزراء، التي كانت مقرَّرة اليوم الجمعة 23 شباط، انطلاقاً من أن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لم يجتمع مع اللجنة المكلّفة من العسكريين بحث مسألة تصحيح المعاشات التقاعدية. وأضاف قرار إعطاء زيادات لموظفين في بعض إدارات ووزارات الدولة، من زخم تحرّك العسكريين المتقاعدين، رغم إعلان ميقاتي وقف الزيادات. (راجع المدن).

الجلسة كانت مرفوضة أيضاً من قِبَل موظفي الإدارات العامة، الذين يرون أنها جلسة مماطَلة لم تكن لتفضي إلى تصحيح الرواتب والأجور. ولذلك، لم يستغرب الموظّفون إعلان ميقاتي تأجيل الجلسة تحت ذريعة إقفال العسكريين المتقاعدين لمداخل السراي الحكومي.

لكن منع انعقاد الجلسة لم يمرّ من دون رسائل، غرضها تحميل الموظّفين والمتقاعدين مسؤولية "التعطيل" والإصرار على مطالبهم. فرئيس الحكومة "حذّر الجميع آخر الشهر، بأن وزارة المالية لا تستطيع تأمين الرواتب رغم وجود الأموال". ويقصد ميقاتي من هذا الكلام الذي جاء ضمن إعلانه تأجيل الجسلة إلى "موعدٍ يحدَّد لاحقاً"، أن عدم القدرة على دفع الرواتب هو بسبب إضراب موظّفي الوزارة.

لا جلسات قبل إنصاف الموظفين والمتقاعدين

يشكِّل الموظفون والمتقاعدون طرفاً واحداً في مواجهة الحكومة التي تمثّل الطرف الآخر من معركة تصحيح الأجور، التي لم يعد بالإمكان تفاديها في ظل اعتماد الحكومة سعر صرف الدولار في موازنة 2024 بما يوازي سعر السوق.

تريد الحكومة عقد جلساتها لإقرار الزيادات والحوافز، لكن أصحاب الحقوق يرفضون ذلك لأن ما سيتم إقراره لا يؤمّن التغطية بما يتناسب مع نسب الغلاء المعيشي ومستوى الضرائب والرسوم. وفي المقلب الآخر، يدافع ميقاتي عن إجراءات حكومته إنطلاقاً من الاحتكام إلى "سقوف الإنفاق التي لا يمكن تجاوزها".

تبرير سقوف الإنفاق غير مقبول لدى موظّفي الدولة ومتقاعديها. فبالنسبة إلى العسكريين المتقاعدين، التذرّع بسقوف الإنفاق "هو حجّة لعدم إعطاء الموظفين والمتقاعدين حقوقهم"، وفق ما يقوله لـ"المدن"، أمين سرّ الهيئة الوطنية للعسكريين المتقاعدين، عماد عواضة. وإن كان الأمر كذلك، فـ"السلطة السياسية هي مَن أدخلت نفسها في هذه المغارة المعتمة، وفاقمت الأزمة من خلال قرار إعطاء زيادات لبعض الموظفين في بعض الإدارات".

إقفال مداخل السراي الحكومي هي خطوة ستتكرّر "إلى حين إنصاف الموظفين والمتقاعدين في القطاع العام. أما التهديد بشكل غير مباشر بعدم القدرة على صرف الرواتب نتيجة إقفال الطرق ومنع انعقاد الجلسة لإقرار الزيادات، فهو أمر مرفوض، وهو محاولة للتحريض ضد المتقاعدين". ويذكِّر عواضة بأن العسكريين المتقاعدين قدّموا حلولاً تقوم على "عودة الحكومة إلى رواتب العام 2019، وإعطاء المتقاعدين 40 بالمئة منها، ليصبح راتب العسكري نحو 500 دولار شهرياً". وفي ما عدا ذلك، لن يكون هناك جلسات قبل إنصاف الموظّفين والمتقاعدين، "بل سيكون هناك تصعيد".


التمييز بين الموظّفين

على قاعدة فرّق تسد، تسارع السلطة السياسية إلى دقّ إسفين بين موظّفي الإدارات العامة ومتقاعديها، وهو أسلوب اعتمدته خلال تحرّكات الموظّفين والأساتذة لإقرار سلسلة الرتب والرواتب، التي أقرَّت بشكل مشوّه في العام 2017. فالسلطة أقرّت السلسلة بأرقام متفاوتة بين القطاعات، ونجحت إلى حدٍّ كبير في شق صفوف الأساتذة في القطاعين العام والخاص. وتحاول اليوم فرض هذه المعادلة من خلال تمييز موظفي بعض الإدارات والوزارات لإعطائهم حوافز. ومن بين هؤلاء موظّفي وزارة المالية المناط بهم تسيير عملية دفع الرواتب.

ولتصحيح الصورة وعدم الانجرار إلى خلق شقّ بين الموظّفين، يؤكّد عضو الهيئة الادارية لرابطة موظفي القطاع العام ابراهيم نحّال، في حديث لـ"المدن"، عدم وجود انقسام بين الموظّفين الذين كان من المفترض أن تشملهم الحوافز قبل التراجع عنها، وبين مَن لم تشملهم. ويقول "نحن وزملاؤنا في وزارة المالية في مركب واحد، فهُم واصلوا عملهم وأمّنوا الرواتب لكل الموظفين في حين أن رواتبنا جميعاً لا تكفي". ويضيف نحّال أن موظّفي باقي الإدارات والوزارات "لديهم ثقة في موظّفي وزارة المالية وباقي الموظّفين. والذي أعلنوا الإضراب، إنما يدافعون عن لقمة عيشهم. فنحن اليوم لم نعد نتحدّث عن سعر صرف الليرة وعن بعض الزيادات على الرواتب، وإنما نتحدّث عن أجر اجتماعي يمكِّننا من العيش والاستمرار بالحياة".

"لا تمييز بين الموظّفين". هي القاعدة العامة التي ينطلق منها نحّال لتأييد حقّ الجميع بتصحيح الأجور. وعليه، يشدِّد نحّال على أن "الهيئة الإدارية لرابطة الموظفين، ليست ضد أي زيادة لأحد. فأي موظّف يأخذ زيادة، إنما هو ياخذ حقّه، لكن المطلوب تأمين تصحيح الرواتب للجميع، وليس لفئة دون فئة أخرى، لأن الموظفين سواسية في الدولة اللبنانية وكلّهم بكفاءات عالية وقادرين على إدخال الأموال إلى الدولة".

ولا يستغرب نحّال تأجيل جلسة الحكومة، بل يضعها في خانة "التسويف والمماطلة واللعب بأعصاب الناس في محاولة لإحباطهم، لأن السلطة لا تريد درس ملف الرواتب. لكن الموظّفين مستعدّون للمواجهة حتى آخر نفس".


السلطة لم تفهم الدرس

منذ 4 سنوات كان على السلطة البدء بدراسة كيفية تصحيح الأجور تماشياً مع تسارع الأزمة الاقتصادية. ومنذ نحو 6 أشهر، يزيد موظّفو الدولة ومتقاعدوها، الخناق على السلطة السياسية لتسريع إقرار تصحيح عادل للأجور. وبما أن الدولة لا تملك المال الكافي، لجأت إلى المزيد من الوعود والأساليب الملتوية، وهو ما اعتبره نحّال "عدم فهم السلطة للدرس الذي قول بأن عليها تصحيح الرواتب والأجور، ولا تراجع عن هذا المطلب. فالموظفون يعيشون تحت خط الفقر". الدرس غير المفهوم يحمل في طيّاته ابعاداً أخرى. فبنظر نحّال، السلطة السياسية لا تتصرّف بطريقة عشوائية، إنما "تنفِّذ إملاءات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في القضاء على القطاع العام. ويُعتَبَر ضرب الموظّفين ببعضهم البعض، هو أحد طرق تحقيق تلك الإملاءات. لكن كما أفشَلَ الموظّفون فكرة التعاقد الوظيفي في العام 1997، سيفشّلون اليوم أي شروط لضرب القطاع العام وبين الدولة".

وإذا كان لا بد من درس ليُفهَم، فهو الدرس الذي يقدّمه الموظّفون للسلطة، ومفاده أن الإضرابات مستمرّة "والموظّفون الذين يعلنون الإضراب في أي قطاع، إنما هو ضغط إضافي على السلطة السياسية وليس على الموظّفين أنفسهم. والموظّفون اليوم بوجود محاولات من السلطة لوضع الموظفين ضد بعضهم من جهة، ووضعهم بمواجهة مع المواطنين من جهة أخرى".

رغم إعلان موظّفي القطاع العام أنهم ليسوا في مواجهة ضدّ بعضهم، فإن الاستمرار بالإضراب وشلّ حركة الإدارات العامة يؤثّر على حركة تأمين السلع إلى السوق، وبالتالي، فإن إطالة أمد الإضراب يشجِّع على رفع الأسعار. والانعكاس الأخير، سيُدخِل باقي شرائح المجتمع في المواجهة. وأي محاولة منهم لتحميل الحكومة مسؤولية الغلاء، فالجواب يُحال إلى الإضرابات. وبهذه الدوّامة التي لا تنتهي، تكسب السلطة المزيد من الوقت لمحاولة ابتداع الحلول غير المناسبة.

تعليقات: