المهندس عدنان سمور: تساهم المقاومة الواعية في فلسطين بتصويب محاولات حرف بوصلة الحضارة الإنسانية من خلال الحضور الفاعل للشعوب الحيَّة
قبل الشروع في شرح المنطلقات التي أوصلت الغرب إلى طرح أفكار الحرية الجنسية بهذا الأسلوب الإباحي الشامل والمتفلت من أي ضوابط أو كوابح ، يهمني أن أقول أن بقية المدارس الغير مادية ، مثل المدارس المثالية والإيمانية والاخلاقية والإنسانية ليست خالية من المشاكل والعيوب ، بل إن الإنصاف يوجب علينا القول أن لكل مدرسة آفاتها وعيوبها وأمراضها ، ولكن هنا في هذا المقال نحاول تسليط الضوء على مرض خطير إبتليت به الحضارة الغربية المعاصرة التي تتبنى الفلسفة المادية ومن شأن هذا المرض إذا عمَّ وإنتشر وإستفحل وضعه أن يساهم في دمار جزء كبير من إنجازات الحضارة الإنسانية وأن يعيد البشرية عقوداً أو قروناً إلى الوراء هذا إذا لم يؤدِّ إلى فناء البشرية عن بكرة أبيها.
المفهوم الغربي للجنس
إن الدكتور عبد الوهاب المسيري يوضح في كتابه ، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان ، أنَّ المدخل لتحقيق فهم صحيح للمنطلقات التي أوصلت الغرب إلى هذه المرحلة ، يبدأ من إستيعابنا للتغيرات التي طرأت على مفهوم الإنسان الغربي للجنس ، وليوضح طبيعة التغيرات التي حصلت ، يقول أنه نتيجة التغير الجوهري الذي أصاب المنظومة الحاكمة لنظرة الغربيين إلى الحياة والعالم حصل لديهم تغيُّر بنيوي في فهمهم للكثير من المفاهيم ومنها الجنس وهذا التغيُّر العميق ، أدَّى إلى تبدل جوهري في سلوكياتهم ، وفي تعاملهم مع الجنس كمتعة إنسانية مُحفِّزة على إستمرار التناسل البشري ، من أجل تحقيق إستدامة في تجديد الطاقات الإنسانية في هذا الوجود وإعمار الأرض ، وقد ادَّى إعتبارالإنسان الغربي ، بأن المادة هي المكون الوحيد لهذا الوجود ، وكل ما في هذا العالم من موجودات بما في ذلك الإنسان هو تجليات وظهورات لهذه المادة فقط ، وللتفاعل الحاصل بين عناصرها ، وقد تراكمت هذه التفاعلات وتنوعت وإنتشرت عبر أزمنة طويلة ومتعاقبة ، وفي ظروف مختلفة حتى وصلت إلى هذا المستوى من التعقيد والإستعصاء على فهم وإستيعاب الإنسان لأبعادها المتشعبة ، ولكيفية نشوئها وتطورها ووصولها إلى هذا الواقع الذي نعيشه ونراه اليوم .
هذا الفهم الغربي المادي الخالص للحياة والوجود ، أوقعه بمجموعة من الخلاصات والإستنتاجات الكارثية ، التي بدأت تظهر آثارها الزلزالية المدمرة ، التي أحدثت تصدعات وفوالق تكتونية في المنظومة القيمية التي راكمتها البشرية عبر قرون متعاقبة من تجاربها الإجتماعية ، وهذه المنظومة القيمية هي التي كانت تؤمِّن الإستقرار والثبات الإجتماعيين لبني البشر على مستوى كل المجتمعات البشرية ، نتيجة وجود مشتركات كثيرة في بنيتها رغم تنوع الشعوب ، وتنوع المناطق الجغرافية والتجارب الإنسانية في هذا العالم الرحب ، ومن الإستنتاجات الكارثية التي استخلصتها الأنظمة الغربية ولحقت بها شعوبها نذكر التالي :
1- لا وجود لإلهٍ (فوق مادي) خالق للمادة وله سلطة وتحكم بموجودات ومجريات هذا الوجود.
2- إنتفاء فكرة وجود إله ، أدَّت إلى إنتفاء وجود غاية للموجودات في هذا العالم ، سواء كانت هذه الموجودات جماداً أو نباتاً أو حيواناً أو إنساناً، الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى مفهوم عبثية الوجود ، والعبثية تعني فقدان وجود طريقة معيارية قياسية للمفاضلة بين الموجودات من جهة ، وبين أنواع السلوك الإنساني من جهة اخرى ، فيفقد الإنسان بذلك دوره المحوري في هذا العالم ، ولا يعود هناك أي مبرر لوجود هدف غير مادي لحياته ، ولجهوده ولأي نشاط يقوم به ، سوى ما ينفعه ويحقق له المكاسب المادية الآنية ، والتي تعتبر المتع واللذات المادية مثل الجنس أهمها.
3- إن مفاهيم مثل الله والقيم والمبادىء والأخلاق والحلال والحرام وحقوق الإنسان والعدالة والوفاء ، ما كانت لتنشأ في حياة البشر إلا بقدر ما تحقق لمنشئيها من المنفعة والمتعة والسلطة والقوة والتحكُّم ، لذلك فإن كل هذه المفاهيم يمكن توظيفها من قبل من يستطيع تحقيق منفعة أكبر أو أسرع ، وإذا تعذر عليه الإستفادة منها يمكن عدم الإعتراف بوجودها أصلاً والتنكر لها ولجدواها ، ولو مكابرةً .
4- أقصى ما يمكن ان يحققه الإنسان في حياته المحدودة في هذا الوجود هو متعته المادية الفردية ، وعلى ضوء ذلك فليتوجَّه الإنسان إلى تحقيق مُتَعِه الممكنة والمتاحة إلى مَدَياتها القصوى ، والتي تحتل المتعة الجنسية فيها مرتبة متقدمة ومتألقة جداً ، نظراً لعمقها وتجذرها في حواس الإنسان وفي بنيته الجسدية ، ونظراً لتناغمها مع بنيته النفسية ولتأثيرها في بناء هويته الشخصية منذ بداية رحلة حياته وقدومه إلى هذا الوجود ، مروراً بنموه الجسدي وتفتح هذا الجسد في مراحل المراهقة والبلوغ وآثار هذه المراحل على تكوين شخصيته وملكاته ونظرته إلى نفسه وإلى العالم .
هذه الجملة من الإستنتاجات التي توصَّل إليها الإنسان الغربي أحدثت لديه طفرةً في تفكيره وفي سلوكه ، كان من جملتها إعتماد تعميم مبدأ التفلت والمشاعية الجنسية المطلقة ، من منطلق تفسيره المادي للوجود ، ومن منطلق غايات نفعية إستثمارية ، مستبطنة في نشر مثل هذه الأفكار الضالة والمنحرفة.
هل يمكن إعتبار الإنسان ظاهرة مادية بحتة؟
صحيح أنَّ الإنسان يمتلك طبيعة مادية يتشارك بها مع بقية الكائنات الحية الأخرى وله حاجات مادية ، مثل الطعام والشراب والنوم والتناسل والحاجة إلى الهواء والماء والمأوى وغيرها ، ولكن يشهد تاريخ الإنسان وما خلَّفه من آثار فكرية وفنية ودينية وثقافية بأنَّه كائن يتمتع بطبيعة ثنائية متاصلة في وجوده وماهيته وكيانه ، وبفضل هذه الثنائية تمكن من تجاوز الطبيعة والواقع المادي الذي يعيشه فعَبَر بفكره وخياله وأدرك وجود عوالم مطلقة ، لامتناهية ، فوق مادية ، وسَّعَت له جغرافيا وجوده وامَّنت له إستقراراً وتوازناً نفسياً ومعنوياً هو بأمس الحاجة إليهما ، لأن المادة بكل أبعادها وتفاصيلها عاجزة عن تلبية ما في داخله من روح غنيَّة بالطموحات والغايات العميقة التي تتجاوز كل الحدود والأبعاد المحسوسة ، حتى أُطلِق عليه أي الإنسان بأنه الكائن الميتافيزيقي الوحيد بين الكائنات الحية ، كما مكَّنته الطبيعة الما فوق مادية التي يتمتع بها من أن يَعبُر في الزمان إلى إدراك التاريخ الذي مثَّل مسرح الأحداث والتجارب التي خاضها أجداده ، والتي نشأت وتكونت فيها ملكاته المعنوية والأخلاقية والوجدانية والقيمية ، والتي بحث فيها كيفية نشوء الوجود ونشوئه هو ، كما بحث فيها أيضاً عن دوره وهدف وجوده وموقعه بين كائنات هذا العالم ، وعبر أيضاً في الزمان إلى المستقبل ليحاكي الخلود والبقاء ويبدي قلقه من الموت والفناء والعدم ، كل هذه القدرة على التجاوز للواقع وللطبيعة المادية ما كان ليحققها الإنسان لولا تمتعه بطبيعة ثانية روحية فوق مادية ، ولا شك أنَّ كل المدارس المادية ، التي تَعتَبِر أنه ليس للإنسان إلا بُعد مادي أوحد يُكوِّن كل هويته وماهيته ، ستبقى عاجزةً عن إيجاد تفسيرات منطقية لوجود مثل هذه القدرات التجاوزية لدى الإنسان .
نتائج تغييب فكرة وجود الإله
تغييب فكرة الإله أدى إلى غياب مفهوم الفردوس الغيبي الإلهي ، وأفقد مفاهيم مثل العدالة والثواب والعقاب معناها ، فكيف يعوِّضُ الإنسان الغربي هذا النقص في حياته وفي ثقافته وفي بنيته النفسية ؟ لا شكَّ أنَّه سيعوِّضه بخلق فردوس أرضيٍّ ، مادي ، طبيعي ، مشبع بالمتع والملذات الحسية ، والملذات الأكثر شيوعاً بين الناس هي الملذات الجنسية التي علينا أن نطلق لها العنان ونتفنن في نشرها وفي تضخيم أثرها بكل الأساليب والوسائل المتاحة ، لذلك تمكن الغرب خلال مدة لا تتجاوز القرن من أن يُحدِث عملية تحوُّلٍ في المفاهيم في مجتمعاته ، وفي حياة المتأثرين والمبهورين بالنموذج والحُلُم الذي بات يمثِّله هذا الغرب ، فصار الإنسان ذو البعد المادي الأوحد هو الإنسان المعترف به غربياً ، وهو المخاطب الوحيد ، وتمَّ تغييب وإبعاد كافة الجوانب الروحية والوجدانية في الإنسان لدرجة عبَّر عنها الدكتور عبد الوهاب المسيري بقوله في سبعينيات القرن الماضي " إن النظام المهيمن في أميركا اليوم يُجهض إنسانية الإنسان ويخاطب أحطَّ ما فيه ".
فردوس الغرب الأرضي البديل
إذا كانت اللذة وحدها غاية الإنسان في هذا الوجود ، فالجنس هو صاحب الحصة الأكبر فيها ، ولتكون اللذة خالية من التبعات والمسؤوليات والمخاطر ، فإن العلاقات الجنسية يجب تحريرها من أي أداء يَنتُج عنه علاقة أسرية ثابتة ، مستقرة تُنتِج أطفالاً يحتاجون إلى رعاية ومتابعة الوالدين وإستنزاف مداخيلهما وتقييد حريتهما ، فكلما كانت العلاقة الجنسية أبعد عن التبعات والمسؤوليات كلما كانت تؤدي الوظيفة المطلوبة منها للإنسان المادي البحت ، على أكمل وجه ، وهكذا راحت العلاقة الجنسية تتحول إلى عملية ميكانيكية عابرة لا علاقة لها بالتناسل وبناء الأسرة وتحصين المجتمع وبناء الإنسان الفاضل القادر على رفدِ مجتمعه بطاقات إبداعية خلاقة يحتاجها .
ورويداً رويدا راحت المجتمعات الغربية تنزلق بإتجاه الشذوذ الجنسي وراحت العلاقات الجنسية ، تنتشر وتُشَرَّع بين أبناء الجنس الواحد مع ما يستتبع ذلك من حرية تحويل الجنس وإباحة تعليم الجنس للأطفال في المدارس قبل وصولهم لمرحلة الوعي والبلوغ ، وصار الشاذون جنسياً يؤسسون جمعيات تطالب لهم بحقوقهم وصارت الدول والشعوب التي لا تعترف بالشذوذ ولا تشرِّعه مُتَّهمةً بعدم مراعاتها لحقوق وحرية الإنسان ، لدرجة يجب على المجتمع الدولي أن يفرض عليها ضغوطاً وعقوباتٍ حتى تعود إلى رشدها وتلتحق بركب الحضارة الحديثة التي يعتبر الغرب بزعامة أميركا نموذجها وحلمها الأكمل اياً كانت طبيعة هذا الحلم .
بين شذوذ الافراد وشذوذ الأنظمة
التفسير المادي الخالص للوجود أدَّى إلى تفكيك المجتمعات الغربية وتحويلها إلى أفراد لا تجمعهم إلا المنافع المادية الشخصية وهكذا يمكن لحكومات هذه الشعوب أن تستثمر في توجيه هذه المجتمعات والتحكم في ضبط سلوك أفرادها وجمعياتها ومؤسساتها ، من خلال الضخ الإعلامي الموجه بداية ، ومن خلال تشريع الأنظمة والقوانين ومناهج التعليم لاحقاً ، التي تحمي حالة التفكك الإجتماعي التي أنتجها التفسير المادي الأحادي للوجود . وبما أن هذه الطريقة في تفكيك الإنسان تُسهِّل عملية السيطرة على الشعوب والتجمعات البشرية ، فإن دول الغرب المقتدرة والساعية إلى الهيمنة على النظام العالمي تُملي عليها مصالحها ، تعمِيم ثقافتها ونموذجها الحضاري على بقية شعوب العالم ، لأنّ هذا النموذج من شأنه أن يُشغِل الناس بواقعهم الحاضر ويقلِّل إلتفاتهم إلى تاريخهم الغني بالتجارب التي صنعت حاضرهم وبنت ثقافتهم التي ميَّزتهم عن بقية الشعوب ، كما يقلل إلتفاتهم إلى المستقبل الذي عليهم أن يبنوه بما يوافق طموحاتهم وأحلامهم هم ، لا أحلام وطموحات أنظمة مهيمنة تحمل على أكتافها تاريخاً إستعمارياً بشعاً ، ومشبعاً بالجرائم والعدوان والمظالم وإغتصاب الحقوق.
لذلك يشعر المتابع للضغوطات التي تمارسها أميركا اليوم على بقية دول العالم بأن أميركا قلقة جداً من التأثير الذي يَنتُج عن تمسك عدد لا بأس به من الأنظمة بتاريخها وبأهمية دورها المستقل ، لأن أميركا تعتبر أنه نتيجة لتفوقها ، فإنَّ على دول العالم أن تتَّبِعها إتباع التلميذ للمعلم وإتباع المحتاج للواهب المعطي ، وإتباع الخائف لمن يحميه ، كما أن أميركا تطمح نتيجة تفوقها أيضاً بأن تحصل على تفويض ، من بقية دول العالم بحق إتخاذ القرارات ، نيابة عن أنظمة وشعوب هذه الدول ، بما في ذلك القرارات المصيرية التي تخص هذه الدول والشعوب ، كما أنه يحق لأميركا المتفوقة ، أن تحدِّدَ لهذه الدول ، حلفاءها وأعداءها وإذا تمكنت دول الهيمنة من جعل بقية دول العالم تدور في فلكها كدوران الكواكب السيارة حول الشمس بفعل الجاذبية القهرية فإنها لن تُقَصِّر في ذلك .
أوكرانيا وفلسطين ومحور المقاومة نماذج نهوض مُقلقة للغرب الجماعي
تمارس أميركا اليوم بمعية الغرب الجماعي ، ضغوطاتٍ كبيرةٍ من خلال تحكمهما بقرارات منظمة الأمم المتحدة ، وقرارات مؤسساتها الدولية القضائية والحقوقية والأمنية والإغاثية والثقافية ، ومن خلال ترويجها وإقحامها لموضوع تشريع الشذوذ الجنسي والمثلية وحرية التحول الجنسي ، كأولوية عالمية تحت عنوان حماية حريات الأفراد ، علَّها تتمكن من تمييع القضايا الكبرى والمصيرية التي يعيشها عالمنا اليوم ، التي تجعل الإنسان على هذا الكوكب يشعر بأنه على مفترق طرق بالغ الخطورة ، مثل قضية الحرب في أوكرانيا ، التي تدور رحاها بين دول الغرب بزعامة أميركا من جهة وروسيا الإتحادية من جهة أخرى ، والتي تعتبر الحصة الأقل لما نسمع أو نرى عن هذه القضية ، هي حصةُ صوت ومواقف الشعب الأوكراني الحقيقية ، لأن النظام في أوكرانيا مسلوب الإرادة والخيار وسَلَّم مصيره ومصير شعبه للإدارة الأميركية ، التي فبركت الإنقلاب على القيادة المنتخبة من قبل الشعب الأوكراني ، وأتت بقيادة صورية عميلة ومرتهنة ، لا تتناسب مع خيارات الشعب الحرة ، الأمر الذي وضع الشعب الأوكراني أمام واقعٍ كارثيٍّ وماساوي ، هذا المصير الذي أُقحم فيه الشعب الأوكرانيا إقحاماً، حتى وصلت الأمور في هذه الحرب ، إلى هذا المقدار من الخسائر الهائلة ، في الأرواح والأرزاق والبنى التحتية ، والحجم الضخم من الدمار والخراب الذي أعاد البلاد والعباد ، عقوداً من الزمان إلى الوراء ، وأما أزمة فلسطين المأساوية المزمنة ، التي عمل الغرب الجماعي بزعامة أميركا ، على تصفيتها ، من خلال عمليات الإبادة التاريخية التي تعرض لها شعب فلسطين ، ومن خلال مؤتمرات السلام الوهمية والمخادعة ، ومن خلال فصل القضية الفلسطينية عن عمقها العربي والإسلامي ، ومن خلال محاولات التطبيع بين الأنظمة العربية والكيان الصهيوني ، ومن خلال إعلان مدينة القدس عاصمة أبدية لإسرائيل ، ومن خلال حروب الإبادة المتعاقبة التي خاضتها إسرائيل ، ضد الشعب الفلسطيني الأعزل ، ومن خلال إطلاق يدها في إفتعال المجازر وأعمال القهر والتنكيل والتعذيب والإعتقال للشعب الفلسطيني المظلوم ، كلُّ ذلك يجري بتغطية شاملةٍ ، من قبل أميركا والغرب الجماعي ، الذين يستخدمون حق النقض الفيتو في مجلس الأمن ، لحمايتها من العقاب الدولي ، بسبب إرتكابها لعمليات التطهير العرقي والإبادة الجماعية لشعب فلسطين ، لذلك فإنَّ عملية طوفان الأقصى التي أبدعتها المقاومة الفلسطينية في غزة ، والمؤازرة الخلاقة التي أبدعها محور المقاومة لحماية شعب غزة ومقاومتها ، مثَّلتا صفعةً كبيرةً لمشروع الهيمنة الغربية على المنطقة والعالم ، وعلى مشاريع الإلهاء والتمييع ، التي يقودها الغرب الجماعي ، للمفاهيم والقيم الإنسانية الكبرى ، من خلال نشر وتشريع الحريات الوهمية والزائفة ، مثل المشاعية الجنسية والمثلية وما لفَّ لفها .
وهكذا تساهم المقاومة الواعية والبصيرة في فلسطين والمنطقة ، بتصويب محاولات حرف بوصلة الحضارة الإنسانية من خلال الحضور الفاعل للشعوب الحيَّة ، في مواجهة قوى الهيمنة الساعية لكسر إرادتها وإضعافها ، لتتخلَّص هذه الشعوب الحيَّة ، من سطوتها وإستعمارها المباشر والمقنَّع ، ولتعود الشعوب الحيَّة ، فاعلة ومؤثرةً في صناعة الحاضر والمستقبل ، وفي حماية المكتسبات الإنسانية المادية والأخلاقية والقيمية .
وبذلك تتمكن هذه المقاومة من إفشال مشاريع الغرب بزعامة أميركا ، الهادفة إلى توسيع مفهوم الليبرالية والسوق وحرية الإستثمار ، ليصبح البشر كأفراد وشعوب وأنظمة ، مجرَّدَ أدواتٍ ماديةٍ ، تؤدي دوراً ميكانيكياً محددا لها ، بشكلٍ يتيح لمشغلِّيها المستعمرين ، من تفكيكها وإعادة تجميعها أو إعادة تدويرها ، بما يناسب رغبتهم وأهدافهم النفعية الإستثمارية البحتة ، فيتحكموا بسلوكها ويوجهوها بموجب إشارات برانية ، على قاعدة كلب بافلوف القابع في إحدى زوايا المختبر ، ولا مكان للقيم والعدالة والحقوق والواجبات في قاموسها ، أما الأنظمة المتحكمة والمهيمنة فإنها بفعلها هذا تتبع قاعدة داروين التي تقول بأن البقاء في هذا الوجود هو للأقوى الذي يحق له ، إفناء أو إخضاع كل من هو أضعف منه في غابة الوجود العالمية ، التي بات يمثل الإنسان المادي فيها ، أشرس حيواناتها المفترسٍة ، وهكذا يكون الشذوذ الرأسمالي قد بدأ يغزو النظام العالمي ويمهِّد لمرحلة ما بعد الإنسان الحر المختار ، الشريك في الإنسانية ، بموجب منظومة قيم تحمي وتحفظ حقوقه وفرادته وتميزه وريادته ومحوريته في هذا الوجود.
يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري بما معناه "إذا كان الغرب يطمح لغزونا ثقافياً فلماذا لا يغزونا بأفكار شكسبير وموزارت وهوغو وبوشكين ، في حين يغزونا بهذا الكم الهائل من الإنحرافات والأفكار المنحطة والساقطة التي تُفرِغُ الإنسان من مضمونه وتقوِّض بذلك الظاهرة الإنسانية الرائعة".
المدخل إلى الخلاص
أمام هذا الواقع القاتم والمحزن والمفجع الذي أوصل إليه الغربُ عالمَنا اليوم ، فإنَّ الإنسان الذي مازال يؤمن بطبيعتيه الغيبمادية ، والذي ما زال يؤمن بأهمية التاريخ والأديان والقيم والحرية والعدالة ، عليه أن يبدأ بدق النفير وتجنيد الطاقات ونشر الوعي وشحذ الهِمَم ، وتضافر جهود التعاون بين حركات الممانعة لمشروع الهيمنة الغربي على العالم ، وكافة حركات النهوض في العالم ، ليشكِّلوا جميعاً ، محوراً مدافعاً عن إنسانية الإنسان وعن دور القِيم ، في تجميل وتعميق وتحصين الإنسان كظاهرة متمادية الحضور والفعالية على إمتداد الزمان والمكان ، ليكون بذلك حب الخير والتراحم بين البشر هو الأساس الثابت والمتين الذي يبني الإنسان عليه حياته الطيبة ، التي حَلُمَ بها رواد البشرية من الأنبياء والأولياء والعظماء الذين أنجبتهم البشرية الحقة ، على إمتداد تاريخها الطويل . وستثبت الروح الإنسانية مرة أخرى أنها قادرة أن تنتصر على كل الذين أنكروا وجودها وتأثيرها ودورها وقيمتها الكبرى ، وستثبت بحزم أنها رمز فرادة وتَميُّز الإنسان في هذا الوجود ، وسيخيب من افترى.
إننا من المؤمنين بأنَّ هذه الأمنيات تمتلك أرضية خصبة من شعوب المنتشرة على إمتداد العالم ، والتي لديها تجارب ورموز إنسانية خالدة ، وتعاني من مظلومية مزمنة سببتها دول الهيمنة والإستعمار ، وآن الأوان لوضع حدٍّ لهذا المستوى القاتل من الإنحراف والشذوذ والسقوط ، ومن إختراع حريات مزيفة ضيقة مدمِّرة للإنسان ، بدل الحريات المشرِّفة والتي تفجّرِ طاقات الإنسان الخلاقة ، وتحمي حقوقه وتنير دروب مستقبله الواعدة ، ونرى بأم العين رغبة شاملة لدول ناهضة أو طامحة للنهوض ، تجتمع في تكتلات وأحلاف لتكون أقدر على مواجهة التحديات الكبرى التي يتعرض لها الإنسان ، وفي ذلك الأداء أمل كبير للمستضعفين بأن يعيدوا للإنسانية وللقيم ، تألقها وإشراقها وتلألؤها ، وحضورها المشرِّف ، رُغم محاولات وحوش الإستثمار البشري والمادي الهادفة لإجهاض المشروع الإنساني العظيم.
عدنان إبراهيم سمور
باحث عن الحقيقة
23/02/2024
تعليقات: