الطوابع المفقودة: ترقيع الحلول سيزيد الأزمة ويرفع احتمالات التزوير

تباع الطوابع في السوق السوداء بأسعار مرتفعة (علي علوش)
تباع الطوابع في السوق السوداء بأسعار مرتفعة (علي علوش)


ترجع قضية الطوابع إلى ما قبل تسارع الأزمة الاقتصادية في العام 2019. وبالتالي، لم تولد من العدم قضية اختفاء الطوابع وبيعها في السوق السوداء بأسعار تفوق قيمتها الحقيقية بما يصل إلى 50 ضعفاً. وكل ما في الأمر أن استقرار البلاد سياسياً واقتصادياً، أخفى تفاصيل القضية التي كانت هي الأخرى صورة من صُوَر انهيار البلاد ونموذج الإدارة فيها. وما إن انهارت محاولات إخفاء بنيوية الأزمة، انكشفت السوق السوداء للطوابع.

ولمعرفة مدى أهمية تلك السوق بالنسبة لشبكة كبيرة ومخفيّة من المستفيدين، يمكن النظر إلى الحلول "الترقيعية" لمشكلة فقدان الطوابع، بدل ابتكار الحلول الجذرية، وهذا ما يدلّ "إمّا عن جهل أو نوايا غير صادقة. وفي الحالتين، الخطر قائم"، على حد توصيف محلّل سياسات الشراكة بين القطاعين العام والخاص في معهد LIMS، غسان بيضون.


حلول شكلية

يُعتَبَر الطابع المالي أحد أشكال استيفاء الدولة للرسوم والضرائب. توضَع الطوابع على أغلب المعاملات الإدارية للتدليل على دفع صاحب المعاملة الرسوم المتوجّبة، وكذلك للتأكيد على قانونية تلك المعاملة وسلوكها الطرق الإدارية الصحيحة. لكن ما تريد الدولة إثباته، لا تطبّقه هي على آلية توزيع الطوابع وتوفيرها لأصحاب المعاملات، لتسهِّل بذلك هدر المال العام وانتشار السوق السوداء.

فالطوابع تُباع في الأصل عبر وزارة المالية إلى معتمدين يقارب عددهم الـ700 معتَمَد مرخَّص، لكن في الحقيقة، "ينخفض عدد المستفيدين الفعليين إلى ما لا يزيد عن 100 معتمد يسيطرون على السوق السوداء"، وفق ما تقوله لـ"المدن"، مصادر في إحدى الإدارات العامة. وينتج عن الخلل المقصود في التوزيع، احتكار للطوابع وتأخير لإنجاز معاملات المواطنين وارتفاع كلفتها نظراً لاضطرار صاحب المعاملة لدفع مبلغ كبير لقاء طابع مالي بقيمة ضئيلة. وبصورة غير مباشرة، يرفع المحتكرون رسوم المعاملات الرسمية أضعاف قيمتها الفعلية، بدون استفادة الخزينة العامة.

واستفحال قضية اختفاء الطوابع وعرقلة إنجاز المعاملات الرسمية بدون المرور بالسوق السوداء، دفعَ الدولة منذ نهاية العام 2019 إلى البحث عن سبل للتخفيف من حدّة الأزمة. فكانت آلات الوسم هي الحل الأسرع، ويقوم العمل بها على مبدأ وسم المعاملة بإشعارٍ يثبت دفع قيمة الطابع المالي، بدون الحاجة إلى لصق الطابع بشكل مباشر. وخفَّفَت هذه الطريقة الحاجة إلى الطوابع، لكن بصورة غير كافية. إذ عادت الحاجة إلى الطوابع بقوّة، بعد منتصف العام 2022، إذ تم رفع قيمة الطوابع المفترض تسديد ثمنها نقداً إلى صناديق وزارة المالية، من 200 ألف ليرة إلى 500 ألف ليرة. فزاد عدد المعاملات التي تحتاج إلى طوابع ورقية بقيمة تقل عن 500 ألف ليرة، وارتفعت حاجة السوق للطوابع من نحو 5 ملايين طابع إلى نحو 10 ملايين طابع شهرياً.

عدم قدرة الدولة على تأمين الاعتمادات المالية المطلوبة لطباعة الأعداد الكافية من الطوابع "عزَّزَ مشكلة اختفاء الطوابع وحصر بيعها بالسوق السوداء"، بحسب المصادر التي تشير إلى أن "ما يتوفَّر اليوم من طوابع في السوق، يتم تأمينه بالقطّارة". أما اعتماد "النموذج رقم 14" كبديل عن الطوابع "ما زال غير قادر على حلّ الأزمة بشكل فعلي، رغم كونه أفضل الحلول في الوقت الراهن". وتتلخّص فكرة النموذج رقم 14 بأنه طلب بثلاث نسخ لشراء الطوابع يتم الحصول عليه من وزارة المالية أو طباعة نموذجه الموجود على الموقع الإلكتروني للوزارة، تُملأ عبره معلومات المعاملة التي يراد إنجازها، مع تسجيل الرقم المالي لصاحب المعاملة، وتُسدَّد الرسوم التي توازي قيمة الطابع المراد شراؤه، إلى إحدى شركات تحويل الأموال التي بدورها تختم النسخ الثلاث التي يحتفظ صاحب المعاملة بإحداها، وأخرى للإدارة المعنية بالمعاملة، والثالثة لخزينة الدولة. ويصبح إيصال الدفع إثباتاً على تسديد المكلَّف رسوم الطابع المالي.

هي حلول شكلية يتم اعتمادها لتغذية النموذج الإداري الحالي في الدولة. وكأن إحداث تغيير جذري، أمر محرَّم. وربما هو كذلك إذا ما تمَّت مقاربة ملف الإدارة العامة من وجهة نظر المستفيدين من النموذج القائم.


انعكاس لاهتراء الدولة

البحث عن بدائل مؤقّتة لا تخرج من دائرة استعمال الطوابع والتمهيد للعودة إليها، هو دليل إضافي على اهتراء الدولة وعقم جهازها الإداري المتخم بالفساد. في حين أن الحل الأنجح هو "التخلّص من نموذج الطوابع. أو على الأقل، حصر استعمالها في الإدارات التي تحتاجها. فيذهب المواطن إلى الإدارة العامة لانجاز معاملته، فيُلصِق الموظّف الطابع مباشرة على المعاملة، بدون أن يطلب من صاحب المعاملة الذهاب إلى خارج الإدارة والبحث عن طابع في أماكن لا علاقة لها بالإدارات العامة"، تقول المصادر التي تفضِّل "اعتماد المكننة في إنجاز المعاملات الرسمية، ما يضمن حسن تنفيذ المعاملات ويخفف العبء على المواطن والموظّف، وينفي الحاجة للطوابع".

الحلول الجذرية ترتبط بقرار الإصلاح الذي ما زال بعيد المنال. وإلى حينه، فإن بيضون الذي اختبر الإدارات العامة من داخلها عبر توليه مسؤولية مدير عام الاستثمار في وزارة الطاقة، ومن خلال عمله في ديوان المحاسبة وعمله كمستشار في وزارة المالية، يقترح "وضع تطبيق الكتروني يتيح للمواطنين التبليغ عن عمليات بيع الطوابع بالسوق السوداء، بدون الكشف عن هوية المبلِّغين. ثم العمل على إصدار قانون يجمِّد آلية العمل بالطوابع الورقية".

الحل الجذري مسألة وقت، فلا يمكن الاستمرار بالاعتماد على الطوابع الورقية فيما الدولة لا تؤمِّنها، فمن غير المقبول أنه "في وزارة المالية نفسها لا يمكن العثور على الكميات المطلوبة من الطوابع لإنجاز المعاملات، حتى وإن بَحَثَ عنها أحد موظّفي الوزارة".

أما تجاهل ضرورة إيجاد الحلول، فسينعكس سلباً على الدولة وإداراتها العامة ويفتح المجال أمام عمليات التزوير بشكل أوسع مما كانت عليه قبل الأزمة. "فالطوابع أوراق بلا طرق حماية، ويسهل تزويرها. فورقة الـ100 دولار يتم تزويرها بشكل متقَن ويصعب كشفه، فما بالك بورقة الطابع المالي؟"، يقول بيضون الذي يستعيد من ذاكرته قضية التزوير الشهيرة التي حصلت في العام 1996 وراح ضحيّتها رأفت سليمان الذي كان يعمل في وزارة المال بصفة أمين صندوق الطوابع المركزي في وزارة المالية.

حتى اللحظة، ما زال المواطنون يبحثون عن الطوابع التي يزيد إضراب موظفي وزارة المالية من معدّل فقدانها من السوق، كون الإضراب يشكِّل ذريعة لمحتكري الطوابع لإخفائها وبيعها بأسعار أعلى.

تعليقات: