بيروت:
للحلويات الشرقية الشعبية في لبنان أربابها الذين توارثوا الصنعة، اباً عن جد، ولم يتأثروا بمنافسيهم الجدد الذين يحاولون تقليدهم من دون فائدة. هؤلاء احترفوا صناعة صنف معين من الحلويات وأكسبوه مكانة خاصة في الأوساط اللبنانية، بحيث أصبحت حلوياتهم زينة الضيافة المحلية التي لا غنى عنها مهما تنوعت المائدة أو تعدّدت أصنافها. ولكل صنف حكايته التي ترتبط بسيرة من يجيد اختصاصه، ابتداء من الكنافة بالجبن مرورا بالقشدة والمعمول بالقشدة أو بالجوز الى المعكرون والسنيورة والمشبّك وليس انتهاء بحلاوة الجبن وحلاوة الأرز وغيرهما من الحلويات التي تغري الفم واللسان. حكايات عن أصناف متعددة الأشكال والألوان والمكونات لها وقع خاص في حضرة المائدة. ولعل شغف اللبنانيين بالتلذذ بهذه الحلويات ساهم برواج سمعة المحلات المتخصصة في صناعة صنف معين من الحلويات. ومهما برز لها منافسون جدد فهم لا يتمكّنون من التأثير في مكانتها التي اكتسبتها من تاريخها في صنع الحلويات الشرقية لتصبح قبلة كل من «يعرف طعمة فمه»، على ما يقول المثل اللبناني. مع العلم أن هذه المحلات التي تبقى مقصد اللبنانيين هي في معظمها في مناطق شعبية ولا تزال محافظة على زبائنها الأوفياء وأسعارها المقبولة من كل الفئات الاجتماعية ومتدنية مقارنة بغيرها ممن أصبحوا دخلاء على المهنة.
وتكثر في لبنان محلات الحلويات التي تحمل الاسم نفسه في محاولة من أصحابها لاستراق شهرة من سبقهم في هذا المجال مستفيدين من انتمائهم الى العائلة نفسها، بحيث يتغير الاسم الأول ليبقى اسم العائلة على حاله. وخير شاهد على ذلك حلويات «الحلاب» التي تغزو كل المناطق اللبنانية، كذلك حلويات الدويهي والبابا والديماسي والبحصلي. الا ان التميز يبقى من نصيب صاحب الاختصاص الأكثر عراقة.
وهذا الواقع يجعل اصحاب هذه المهنة أشبه بالمافيا، يسيطرون على السوق «معنويا»، بحيث يصعب على المحلات «الناشئة» اثبات وجودها في وسط هذه الزحمة، حتى وان تسلحت باعتمادها على أهم المتخصصين في مجال صناعة الحلويات. ومثل هذه المحلات قد تروج لفترة قصيرة وذلك من باب الفضول الذي يجذب الزبون للتعرف إلى الجديد. لكن البراعة وجودة الانتاج لا يؤديان بالضرورة الى قدرة هذه المحلات على سلب تلك العريقة والمتخصصة مكانتها، بل يبقى للخبرة في هذه الصناعة الدور الأبرز في سبب انحياز اللبنانيين الى صالح صناعة محل دون غيره. ويبقى وفاء الزبون للمحل طالما بقي ارث العائلة في صناعة الحلويات في عهدة الأولاد وطالما تمكنوا من صون «الوراثة الحلوية» التي تنتقل من الجد الى الابن والحفيد...
ولعل اهم سبب لاستمرار هذا النوع من المحلات هو الاحتراف والتخصص في صناعة نوع معين والاكتفاء بصنعه، الأمر الذي ينعكس شهرة في أوساط المجتمع اللبناني ويصبح المحل مقصدا لكل من اشتهى هذا النوع الذي عرف به أو ذاك، فلا يمكن مثلا لمن يشتهي أكل المعمول مد بقشدة الا ان يقصد «تاج الملوك» في منطقة الحمرا في بيروت أو محل «صفصوف» في منطقة طريق الجديدة، اما من اختار تناول فطور دسم ومحلى فما عليه، في أي منطقة كان، الا أن يتوجه الى حلويات «نمر الوادي» التي تشتهر منذ عشرات السنين بطعم الكنافة التي لا مثيل لها ولا شبيه بها، حتى بات «نمر الوادي« اسما مشهورا بين اللبنانيين من مختلف المناطق، حيث تسقط الحواجز وعائق زحمة السير في سبيل الحصول على كعكة كنافة موقعة باسم «نمر الوادي». «تاج الملوك» اسم ذاع صيته ليس فقط في لبنان بل وصل الى أوروبا وأميركا والدول العربية عبر افتتاح 22 فرعا كانت كفيلة بنقل صورة ناصعة عن انتاج الحلويات العربية بأياد لبنانية. لذة نكهة حلويات «تاج الملوك» أكسبته خصوصية فريدة، لا سيما فرادة نكهة «المعمول مد بقشدة». وانتقلت الوراثة من الأب الى الابن منذ العام 1975 ولا تزال مستمرة في فرع واحد في منطقة الحمرا في بيروت. ويقول جمال غزال، الابن الذي يدير المحل، «يشمل محلنا على كل أنواع الحلويات العربية التي نصنعها بحرفية، لكن أهم ما يميزنا عن غيرنا يبقى اختصاصنا في اعداد المعمول مدّ بقشدة». ويضيف «قد يشتري زبائننا أنواعا من الحلويات من محلات أخرى، لكن بالتأكيد لن يفرطوا بتناول المعمول بقشدة الا من انتاج تاج الملوك». ويعتبر غزال «أن طريقة إعداد هذا النوع من الحلويات لا تختلف عن غيرها، لكن أبرز ما يميزه هو القشدة الطازجة التي نحرص على أن تكون على رأس مكوناتها بدل تلك الممزوجة مع الحليب أو الحليب المطبوخ التي تستخدمها المحلات الأخرى في صناعتها».
على صعيد آخر، من أحد فروع الحلويات العربية، افتتح في عام 1979 «نمر الوادي« محله الذي حمل اسمه في منطقة صبرا، إحدى أكثر المناطق شعبية في بيروت، وفي عام 1990 حوّل المحل الأول الى مصنع وفتح محلا أكبر في منطقة طريق الجديدة، حيث كانت البداية مع الشهرة و«بصمة الكنافة الخاصة»، وكان يصل معدّل البيع يوميا الى خمسين «صدر كنافة». هذا الاسم الذي لا يزال محافظا على عراقته منذ حوالي 30 عاما بدأ مسيرته قبل هذا التاريخ بعشرات السنين كما يقول أحمد أحد أبناء نمر الوادي، الذي ورث المهنة عن والده بعد جده «أبو الوليد». ويقول «قدم جدي من فلسطين في عام 1948 حاملا معه مهنة «الحلونجي» على متن عربة يتنقل بها في المناطق اللبنانية بائعا حلوياته على اختلاف أنواعها، لا سيما منها تلك التي لا تحتاج صناعتها الى جهد كبير أو مكونات كثيرة مثل النمورة والصفوف، لكنه استطاع بعد ذلك أن يتميّز بالكنافة التي كان ينتظرها زبائنه بفارغ الصبر». مع مرور الزمن، انتقلت الحرفة الى الابن «نمر» الذي كان قد وصل الى نتيجة مفادها أن الكنافة هي أكثر ما يروق اللبنانيين ويغريهم. مع نمر، تطوّرت المهنة من التنقل بالعربة الى التجوال بالسيارة مناديا على حلوياته ومتخطيا الحواجز واصلا بذلك الى الجبل والجنوب وموسعا دائرة زبائنه. واكتملت المسيرة مع الحفيد أحمد الذي «تعلّم المهنة بالفطرة» حاملا لواء الكنافة ومصمما على المضي قدما في عمر مبكر. انتقل أحمد بمهنته الى الجنوب في عام 2001 قبل أن يعود الى بيروت ويفتح محلا خاصا به في منطقة الضاحية لبيروت حاملا اسم «حلويات أحمد نمر الوادي». رائحة الكنافة تستقبل الزبائن على مسافة أمتار من المحل الذي لم يقف تواضعه عائقا امام شهرته في أوساط ابناء المنطقة وجوارها. مسافة صغيرة بمفعول كبير، الداخل الى المحل لن يجد امامه الا خيارا واحدا وهو التلذّذ بكعكة الكنافة الطازجة، أما من يقرر الاستمتاع بـ «جلسة الكنافة» فسيجد ضالته في الزاوية الخارجية المخصصة لذلك. وهذا ما ارتأته إحدى السيدات التي حضرت برفقة ابنتها لتناول الفطور، وتقول «أحرص من وقت الى آخر على التحلي بصحن كنافة من هذا المحل، لكن اليوم حضرت بناء على رغبة ابنتي التي كانت مسافرة وتشتهي الكنافة، لذا فليس هناك من محل كفيل بتقديم هذا الخيار أشهى من حلويات أحمد نمر الوادي». وعند سؤالك عن سبب تميّز هذه الكنافة تجيبك «ان شبع البطن لن تشبع العين. تتميز بكونها شهية وخفيفة وليست دسمة، من دون إغفال الخدمة المميزة».
من السادسة صباحا الى الواحدة بعد الظهر، ثم من الخامسة عصراً الى العاشرة مساء، هي مواعيد افتتاح أبواب المحل لتناول الكنافة وهما بذلك فترتا تناول وجبتي الفطور والعشاء. ومن يتّبع حمية غذائية يجد ضالته في كنافة «أحمد نمر الوادي» التي تتفاوت الآراء بشأن منافستها لـ «كنافة الوالد نمر» ويقول أحمد «منهم من يقول إن كنافتي اطيب ومنهم من يقول إن كنافة والدي اطيب، لكن ما هو أكيد أن نفس العائلة هو الذي يمنح هذه الكنافة خصوصية النكهة، خصوصا انني أحرص على الإشراف على صنع الكنافة يوميا، ومن شكلها أعرف اذا كان هناك خطأ ما ارتكب في طريقة إعدادها». ويضيف «أهم ما يميز الكنافة التي نحضرها هي المكونات التي نحرص على أن تكون من أفضل الأنواع من الجبنة التي تشكل نسبتها 75 في المائة من قطعة الكنافة الى السمن البلدي والفرك الذي نحضره في المعمل بدل أن نشتريه جاهزا».
تعليقات: