يستقلّ صباح كلّ يوم، حوالي ٣٠٠ شاب، من أبناء بلدة (القْصَيْبة) في منطقة النبطية، سياراتهم، متوجّهين إلى عدد من المناطق اللبنانيّة، لا سيّما بيروت وضواحيها كافة، بحثا عن سيّارات، يعتزم أصحابها بيعها أو تبديلها، ويتركون أرقام هواتفهم، على أبواب أو زجاج نوافذ سيّارات مركونة، مع عبارة، “إذا كانت السيّارة للبيع يمكنك الاتّصال على الرقم أدناه”.
في مقلب آخر يتابع تجّار عديدون من البلدة نفسها، حجز سيارات مشتراة من الخارج وتخليص معاملاتها الجمركيّة، وفتح معارضهم المتواجدة على جانبيّ الطريق، حيث المشهد، كأنّك في بلد مصنّع للسيارات على أنواعها، سواء أوروبيّة أو أميركيّة وآسيويّة.
من الزراعة إلى عاصمة تجارة السيّارات
القصيبة الهادئة التي كان يعتمد قسم كبير من أبنائها على زراعة التبغ والزراعات البعليّة الأخرى والوظيفة العامة، تحوّلت بسرعة كبيرة ومدهشة، إلى بلدة تجارة السيارات الأولى في لبنان، ومقصدًا للتجّار والزبائن، ممّن يجولون في أرجائها لشراء السيّارات، منها المتواضعة جدًّا ومنها الفارهة أيضًا، إلى جانب الآليات كافة، على رأسها الجرّارات الزراعيّة وقطع الغيار.
مع نهاية الحرب، وعلى مشارف تسعينيّات القرن الماضي، بدأ العشرات من شباب القصيبة، بالهبوط إلى مرفأ مدينة صور، وهو ليس ببعيد عنهم، إذ كانت تحطّ على أرصفته آلاف السيّارات المستعملة المستقدمة من أوروبّا، بهدف ابتياع السيارات، على خلفيّة تجاريّة، وسرعان ما انتشرت كالفطر والعدوى بين معظم أهالي القصيبة، حيث وصل عدد العاملين في قطاع تجارة السيّارات والآليّات، إلى أكثر من أربعمائة فرد وفق ما يؤكّده عدد كبير من العاملين في هذه التجارة.
يجثم على أرض هذه البلدة، الواقعة بين بلدتي بريقع وكفرصير، أكثر من خمسة آلاف سيارة، يتسابق أصحابها على عرضها، أمام منازلهم ودورهم، وفي المعارض التي استحدثوها، بعد تطور تجارتهم، وإتيانهم بالسيارات من أميركا وأوروبا، إلى جانب السيارات من السوق المحلي، التي تحرك سوقها أكثر، خاصة بعد رفع الرسوم الجمركية بشكل كبير.
جمود بارتفاع وتيرة الحرب
مع بداية العمليّات العسكريّة، على جبهة الحدود اللبنانيّة الفلسطينيّة، هبط النشاط في تجارة السيارات، في القصيبة، وتأثّرت بها بعض القرى المجاورة، مثل كفرصير وعدشيت وسواهما، وأصبح الركود سيّد الموقف، حيث بلغ التراجع، عتبة المئة بالمئة، بعد انكفاء أبناء المناطق اللبنانيّة الأخرى، عن سوق سيّارات البلدة الدائم، خوفًا من التطوّرات العسكريّة المتلاحقة، ما سبّب خسائر كبيرة لهذا القطاع، الذي يعتاش منه ما يقارب سبعين بالمئة من أبناء القصيبة.
مع بداية العمليّات العسكريّة، على جبهة الحدود اللبنانيّة الفلسطينيّة، هبط النشاط في تجارة السيارات، في القصيبة، وتأثّرت بها بعض القرى المجاورة، مثل كفرصير وعدشيت وسواهما، وأصبح الركود سيّد الموقف.
أمورٌ أخرى زادت الوضع سوءًا، منها ارتفاع الرسوم الجمركيّة، ومنها أخيرًا رفع رسوم تسجيل السيّارات بأرقام عالية، إلى جانب رسوم الميكانيك، ولجوء عديد كبير من النازحين، إلى بيع سيّاراتهم، بأسعار أقلّ من سعر السوق، لتدبّر أمورهم وتأمين لقمة عيشهم، وكذلك لجوء العديد من تجّار السيارات في القصيبة، تزامنًا مع تأزّم الوضع الأمني المستجدّ، إلى بيع أعداد كبيرة من سياراتهم بسعر الكلفة، وذلك للتخفيف من أعدادها الكثيرة، خوفًا على مصير ممتلكاتهم وأرزاقهم.
بدأ فضل نجم، العمل في مجال تجارة السيارات، قبل أكثر من ثلاثة عقود، إلى أن امتلك معرضًا مستقلًّا على أرض بلدته القصيبة.
يفاخر نجم، بكفاح شبّان بلدته، ممّن بدأوا من الصفر، حتّى أضحى كفاحهم، حديث أبناء الجنوب وكلّ لبنان، من أقاصي عكار والهرمل وصولًا إلى أطراف الجنوب والجبل.
رسوم جمركيّة وارتدادات الحرب
يقول نجم لـ”مناطق نت”: “إنّ نحو سبعين بالمئة من أهالي بلدتي، يعملون حاليًّا في تجارة وبيع السيّارات والآليّات على اختلافها، ما مكّنهم من حجز مكانة اقتصاديّة واجتماعيّة، ساهمت في نموّ البلدة وازدهارها وانتعاشها”، مضيفًا: “إنّ هؤلاء غيورون على أبناء جلدتهم، ويقفون إلى جانبهم في مشاكلهم الصحّيّة وغيرها، عبر مساهمات من كثير من التجّار”.
ويشير نجم إلى أنّ ارتفاع الرسوم الجمركيّة على السيارات، وتوقّف تسجيل السيّارات، ولاحقًا رفع أسعارها، بشكل خياليّ، والوضع الأمنيّ على الحدود الجنوبيّة، أدّى إلى ترنّح سوق السيّارات المستوردة، وإحداث إرباك لدى التجّار، الذين سبق لهم أن استوردوا السيارات نفسها، وعرضوها بأسعار أقلّ، قبل سريان مفعول رفع الرسم الجمركيّ”.
ويتحدّث نجم عن “تحرّك سوق السيّارات المحلّيّة، نظرًا لأسعارها المقبولة، قياسًا مع السيّارات الحديثة، التي تدخل إلى لبنان، ويعود تاريخ صنعها إلى ما قبل ثماني سنوات فقط. ولكن بعد اندلاع الحرب، قبل خمسة أشهر، انقلب الوضع رأسًا على عقب، وتدنّت حركة البيع والشراء في قطاع تجارة السيّارات، وكلّ ما يرتبط بها، إلى مستوى الصفر”. ويقول: “إنّ زبائننا، من الشمال والبقاع وبيروت والجبل، وحتّى الجنوب، لم تعد تطأ أقدامهم البلدة، على خلفيّة ما يجري على الساحة الجنوبيّة”، مؤكّدًا “هبوط أسعار السيارات، ومثالًا على ذلك، فإنّ سيّارة الجيب، التي كانت بعشرين ألف دولار، هبط سعرها إلى 17 ألفًا.”
القصيبة أكبر سوق لبنانيّة للسيارات
ولج الشاب عبّاس سعد، تجارة السيارات قبل نحو سبع سنوات، ويتّخذ من بلدة القصيبة القريبة من مكان سكنه، في بلدة مجاورة، نشاطه في هذه التجارة، من خلال معرض للسيّارات. يقول سعد لـ”مناطق نت”: “إنّ القصيبة، تعتبر أكبر سوق للسيّارات في لبنان، وتشكّل مقصدًا للزبائن، سواء كانوا تجّارًا أو أفرادًا، من المناطق اللبنانيّة كافّة، إذ يجدون عندنا طلباتهم، نتيجة عديد السيارات المرتفع جدًّا وتنوّعها”.
ويؤكّد سعد “أنّ حركة بيع وشراء السيارات، في معارض البلدة، هبطت بشكل حادّ، وصل إلى الصفر، نتيجة التطوّرات الأمنيّة في الجنوب، والتراجع المستمر في الوضع الاقتصاديّ والحياتيّ”.
يعمل سعيد فقيه، ابن بلدة طيردبّا، في مجال صيانة السيّارات (حدادة وبويا) منذ أكثر من أربعين عامًا، وإلى هذه المهنة، يعمل بتجارة السيّارات المستعملة، ويقصد بلدة القصيبة بشكل دائم، حتّى صار واحدًا منهم.
يؤكّد فقيه لـ”مناطق نت” أنّه يتعامل مع تجّار هذه البلدة في بيع وشراء السيّارات على أنواعها، منذ أكثر من عشرين عامًا، مشيرًا إلى “أنّ شهرة البلدة في تجارة السيّارات واسعة جدًّا، ولا تضاهيها أيّ مدينة أو بلدة لبنانيّة على الإطلاق، حيث يأتي إليها تجّار وزبائن من كلّ حدب وصوب”.
وفي ما يخصّ حركة بيع وشراء السيّارات، يضيف: “خلال الأشهر التي سبقت الحرب، وتلت رفع الرسوم الجمركيّة، تحرّك سوق السيّارات المحلّيّة، للآليّات تحت عشرة آلاف دولار، وذلك نتيجة تفاقم الوضع الاقتصاديّ. أمّا بعد انطلاق الحرب وازدياد الاعتداءات الإسرائيليّة، تدنّى نشاط هذه التجارة، من بيع وشراء، إلى الحدود الدنيا، وأخاف أن نصل إلى حدّ الترحّم على أيّام زمان”.
* المصدر: manateq.net
معارض السيارات في القصيبة
سعيد فقيه متفحصًا إحدى السيارات
الشارع الرئيسي في القصيبة وتبدو معارض السيارات
تعليقات: