لا جديد في أوضاع السجناء سوى استمرار انحدار ظروفهم من السيئ إلى الأسوأ (علي علوش)
يُطرح في الأروقة، أطعمة أشبه بمأكولات الحيوانات الداجنة، كسرات من الخبز الفاسد (عادةً رغيف متوسط وآخر رقيق)، مياه ملوثّة للشرب، ووجبات غير صالحة للاستهلاك الإنسانيّ بتاتًا. وعندما نُعلي الصوت ونطالب بإصلاحات فوريّة وحلحلة لوضعنا المتردي، يصفوننا بمفتعلي المشاكل وهواة اجتذاب الاهتمام الإعلاميّ، إلّا أننا نسعى فعليًّا للاهتمام الرسميّ وحسب. أوضاعنا وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، وإن كانت الأمراض المعديّة، والاكتظاظ، والتفلت الحاصل في الزنازين، والجوع وسوء الغذاء الذي يحاصرنا، وموتنا المفاجئ بسبب الإهمال الطبيّ، أسباباً لا تكفي القضاء وقوى الأمن الداخليّ وسائر المعنيين، للإتيان بحلول جذريّة، لست أدري ما هي الأزمات التّي قد تدفعهم للتحرك!
بهذا يُلخص النزيل في سجن روميّة المركزيّ م. ح.، لـ"المدن"، الأزمات الوجوديّة التّي يكابدها نزلاء السّجون، على امتداد الأراضي اللّبنانيّة، والتّي وصلت ذروتها في الأيام الأخيرة، مع تداول معلومات تُفيد عن انقطاع تام لأصناف غذائيّة عدّة وتحديدًا الخبز العربيّ (الخبز الأبيض)؛ في فصلٍ جديد لانحدار الوضع الإنسانيّ والغذائيّ المزمن وغير المُتدارك رسميًّا، في هذه المراكز.
انقطاع المواد الغذائيّة
أما الأزمة المستجدّة، والمتناسلة أساسًا عن ظاهرة تقنين الغذاء في السّجون، لانتفاء مقدرة السّلطات المعنيّة من وزارة المال، ووزارة الداخليّة والبلديات، على دفع المستحقات المتوجبة للشركات الموردّة للمواد الغذائيّة (راجع "المدن")، بدأت منذ عدّة أيام، بإعلان شركة "عبدالله غروب"، المتعهدة لتأمين الخبز لسجون رومية والقبة وزحلة، قرارها التوقف عن تسليم الخبز لهذه السّجون بعد امتناع وزارة المال عن تسديد مستحقاتها منذ أكثر من 5 أشهر، رغم سلسلة الوعود التي أُعطيت لها وآخرها من اللواء عماد عثمان قبل أكثر من شهر بالتمهل أسبوعاً لتأمين المستحقات، ما دفع إدارة الشركة لاحقًا الى اتخاذ قرار بالامتناع عن تسليم الخبز لحين سداد المستحقات.
الأمر الذي خلق حالة من السّخط في صفوف الجهات الحقوقيّة والإنسانيّة، على اعتبار أن حرمان السّجناء من الخبز وغيره من المواد الغذائيّة الأساسيّة التّي توفرها إدارة السّجون، انتهاك صريح لكرامة السجناء وسلخهم الاعتباطيّ عن حقوقهم البديهيّة، مثل قوت يومهم من مأكلٍ ومشرب نظيف وصحيّ وقابل للاستهلاك؛ وخصوصًا بظلّ المعوقات التّي تحول دون إمدادهم بمصادر غذائيّة أخرى، أكان عبر ذويهم بسبب أوضاعهم المعيشيّة ونفقات توصيل الأغذيّة عند الزيارات العائليّة المتقلصة، أو لغلاء الأسعار في "كافيتريا" مختلف مراكز الاحتجاز. الواقع الذي تأزم أكثر، مع تعمق الأزمة، واعتماد الشطر الأوسع من النزلاء على الطعام الذي توفره إدارة السّجون، عبر الموردين.
أزمة غذائيّة وصحيّة
وفي هذا السّياق تُشير الناشطة الحقوقيّة ونائبة رئيس جمعية "س.ج.ن" والمتحدثة باسم أهالي السّجناء رائدة الصلح، في حديثها إلى "المدن" قائلة: "لا جديد في أوضاع السجناء سوى استمرار انحدار ظروفهم من السيئ إلى الأسوأ على مختلف الصعد المعيشيّة وحتّى بما يتعلق بملفاتهم القضائيّة. اليوم طعام السجين وما يأتي من مطبخ السجن غير كاف وغير لائق كطعام للبشر وأما دكان السّجن فأسعاره المضاعفة تستمر بالزيادة ولا رقيب أو محاسب ولا بديل عنه ولا إمكانية للسماح للأهل بإدخال الطعام. وبعد المعاناة الصحّية تأتي المعاناة الغذائية التي تُعرّض السجين للأمراض والضعف والوهن وتزداد فرص الأمراض المعديّة وتنامي الكوارث الصحيّة والغذائيّة، هذا من دون التطرق لموضوع غياب التدفئة في الشتاء وأوضاع الزنازين المتسخة والمفتقرة للتنظيفات العامة، مما ينعكس على نظافة النزلاء الشخصيّة". وكلام الصلح، أكدّه السجين م. ح. الذي تواصلت معه "المدن"، معتبرًا أن إدارة السّجون تحاول دحض كل ما يُشاع عن نقص المواد وتحديدًا الخبز، "فتقوم بإعطاء بعض الأقسام أسبوعيًّا أكياس من الخبز الطازج، لإرضائهم. لكن فعليًّا، الطعام سيئ وعندما نشكو من أي عارض صحيّ كنتيجة للظروف غير السليمة، نغدو مسؤولين عن وضعنا، ويستوجب علينا دفع النفقات الاستشفائيّة"، حسب السّجين.
وللاستفسار عن مآلات الواقع الحاليّ وملابسات قضيّة انقطاع المواد الغذائيّة وتحديدًا الخبز، تواصلت "المدن" مع مصدرٍ رفيع في المديريّة العامة لقوى الأمن الداخليّ، الذي أكدّ بدوره أن الأزمة حُلت بين الطرفين، من دون الإجابة عن أسئلة أخرى طرحتها "المدن"، وتحديدًا في سياق الحلول التّي اعتمدتها المديريّة أو الوزارت المعنيّة لمعالجة هذه القضيّة، بالنظر لكون الجهتان لهما تاريخ حافل بالحلول الترقيعيّة والمؤقتة لا الجذريّة، في هذا الملف وبكل ما يتفرّع عنه. بالمقابل، نفت المصادر الرسميّة ما يتمّ تداوله، مصرّة على أن الوضع قيد السّيطرة وأن وسائل الإعلام تبالغ في وصفها، معلقةً على تقرير سابق لـ"المدن" تناول وفاة 33 موقوفًا بسبب الإهمال الطبيّ في العام الماضيّ (راجع "المدن")، قائلةً: "لا إهمال طبيّ في السّجون، والأطباء المتعاقدون يزورون النزلاء دوريًّا".
الاكتظاظ: الكارثة الأساس
وإلى جانب أزمة الغذاء، هناك بُعد آخر لموضوعنا – يقع عند حقوق الموقوفين، بانتظار محاكمتهم (65 بالمئة من النزلاء غير محاكمين بحسب وزارة العدل، 80 بالمئة وأكثر بحسب نقابة المحامين)، والذي يُعتبر الجذر الأوليّ لهذه الأزمة وغيرها من المحن التّي يقاسيها نزلاء السّجون ومراكز الاحتجاز والنظارات في لبنان. وهنا يعتبر المحامي والناشط الحقوقيّ علي عباس، أن الوضع الحاليّ كلّه يرتبط باكتظاظ السّجون ومراكز التوقيف كالنظارات، قائلًا: "لا ننفي تقصير الجهات المعنيّة، إلّا أن حقيقة توقيف أعداد هائلة من دون محاكمة أو فرصة للدفاع القانونيّ ومن مختلف الجنسيات، في مراكز وضعت على أساس إحصائي – ديمغرافي – اجتماعيّ مُعين وضيق، ستفرز طرديًّا اكتظاظاً، وبالتّالي سيزيد الضغط على كاهل المؤسسات المولّجة التّي ستضطر لاحقًا بالطبع، للتقشف والتقنين أكان في المواد الغذائيّة أو في الخدمات المتوجبة عليها والشؤون اللوجستيّة، ومراعاة الهدف الأساس من السّجن والتوقيف وهو الإصلاح والتّأهيل".
ويستطرد عباس بالقول: "لا نذيع سرًّا إذا أشرنا لكون السّجون اليوم في حالة مزريّة وعادةً ما ينصب اللوم بالمطلق على قوى الأمن، التّي سُجل بحقها عشرات المخالفات بما يتعلق بسوء استعمال السّلطة داخل هذه المراكز وغيرها من الاتهامات الفضائحيّة المرتبطة بالتفلت داخل الزنازين (أكان في دخول السّلاح الأبيض وتهريب المخدرات)، لكن هناك شقّاً آخر، يتعلق أساسًا بوجود العشرات إن لم نقل المئات من المساجين المنسيين والمنفيين من ذاكرة القضاء والقانون، هؤلاء الذين لا يزالون قيد التوقيف، من دون أن يتسنى لهم توكيل محام أو الحصول على الحقّ بالدفاع القانونيّ، أو دفع كفالاتهم الماديّة. وهنا يقع دور نقابات المحامين والجهات الحقوقيّة، للإلتفات لهذا الموضوع، وتعيين وكلاء لهؤلاء تطوعًا وللمنفعة العامة (pro bono – for the public good)، ما يتيح فرصة لتقليص الأعداد وتخفيف العبء المتفاقم".
العرقلة القضائيّة
من جهته، أكدّ المحامي ورئيس "لجنة السّجون في نقابة محامي طرابلس"، ومستشار الصحة العقليّة السّابق في سجن روميّة، محمد صبلوح، أن الاكتظاظ هو العامل الأساس في تأزم حال السجون ومراكز الاحتجاز، مشيرًا إلى عدم وجود إحصاء دقيق لأعداد المساجين ولا حتّى لأولئك غير المحاكمين حتّى اللحظة، مستفيضًا بالقول: "باعتقادي، القضاء والأمن هما الملامان على هذا الواقع المؤسف، وخصوصًا لجهة الاستخدام المفرط للتوقيف الاحتياطيّ، الذي من المفترض أن يكون بين 48 ساعة و4 أيام. هذا من دون التعريج على الظاهرة الأسوأ وهي عشوائيّة الاعتقالات، وغالبًا ما تكون تعسفيّة ومن غير أساس قانونيّ واضح. القضاء اليوم، لا يحترم بالمطلق المادة 108 من أصول المحاكمات الجزائيّة، التّي تنصّ صراحةً على ضرورة دراسة سقف التوقيف الاحتياطيّ لكل جريمة، وهي شهرين قابلة للتجديد مرة واحدة بالنسبة للمتهمين بارتكاب الجنحة، وستة اشهر قابلة للتجديد أيضاً مرة واحدة للمتهمين بالجنايات باستثناء جرائم القتل والمخدرات أو التوقيف أمام المحقق العدلي، حيث لا تحدد أي مهلة".
شارحًا: "المئات اليوم محتجزون من دون أي داعٍ بانتظار محاكمتهم، التّي يعرقلها التعطيل القضائي المستمر، كمثل اعتكاف المساعدين القضائيين أو انخفاض معدّل حضور القضاة إلى المحاكم (مرّة أو مرتين شهريًا)، فيما لا تتوافر إمكانيّة سوق آخرين إلى المحاكمات، نتيجة عدم توافر المحروقات أو الآليات لدى قوى الأمن"، معلقًا: "السّجون اليوم باتت مقبرة العدالة، وبدل أن يكون السّجن للإصلاح، بات يُخرّج مجرمين. بعضهم يُعتقل بجنحة بسيطة، فيتحول مجرماً خطيراً على مجتمعه ودولته".
هذا فيما أجمع المحاميان، على أن الحلّ يكمن بالمرتبة الأولى بوضع هدف السّجن كأولويّة دون غيرها من الحلّول الترقيعيّة، وضرورة المباشرة في محاكمة الموقوفين وفورًا، وبذلك تبتدئ حركة الإصلاح داخل مراكز الاحتجاز.
هذا ويُذكر أن قضيّة الاكتظاظ كان بإمكان السّلطات اللّبنانيّة معالجتها سابقًا، عندما تم تخصيص 30 مليون دولار أميركيّ ضمن الخطة الحكوميّة المعتمدة لتخفيف الاكتظاظ عام 2015، وذلك ببناء سجن جديد في بلدة مجدليا في الشمال. أما المفارقة أنّه وبعد حوالى عشر سنوات، لم يُنفذ المشروع رغم تعهد وزير الداخليّة نهاد المشنوق وقتها، باكتماله في غضون 18 شهر!
تعليقات: