في مقالة سابقة لنا تحت عنوان «ميكال أنجلو معاصرنا»، وبعد زيارتنا لروما ولمتحف الفاتيكان فيها، ذكرتُ أنّ الرواية تقول أنّ البابا يوليوس الثاني Jules 2 استدعى الفنان ميكال أنجلو (أو مايكل) إلى روما عام 1505م ، طالباً منه زخرفة سقف مصلّى الكنيسة. إرتاب الفنان من هذا العمل الضخم مخافة الفشل، متمنّياً على البابا إسناده إلى فنان آخر متخصّص، كون ميكال أنجلو نحّاتاً أكثر منه مصوّراً peintre (رسّاماً)، لكنّ البابا أصرّ على قيام أنجلو بالمهمّة كأمر ملكّيّ. لم يكن أمام الفنان إلّا الامتثال للأمر، وبدأ العمل عام 1508 من دون توقّف على مدى أربع سنوات، يعمل وحيداً، بخلاف ما كان يحصل مع الفنانين الآخرين الذين كان يعاونهم طلاب فنون وحرفيّون. جاء هذا العمل بمثابة معجزة إنسانيّة فرديّة. يحكي العمل قصّة الخلق، مقسّماً إلى تسعة أجزاء، أو مجموعات، مساحتها الإجماليّة ثلاثة آلاف وخمسمائة متر مربّع (3500م2) يتقاسمها ثلاثمائة شخص! يسيطر العري عليها بتبرير من أنجلو..
اُستعملت في العمل تقنيّة الفريسك Fresque بطبيعة الحال، ونعني بها استعمال مادّة لونيّة مُحضّرة باليد، يُرسم بها على الجدار؛ هذه التقنيّة كانت متّبعة قبل اكتشاف اللوحة، التي تُعلّق على الجدار، في عصر النهضة.. توزّع تأليف الجداريّة على أشكال هندسيّة (المثلث والمربّع والدائرة) عملاً بنظريّات أفلاطون.. في الجزء المتعلّق بخلق آدم، ظهر الأخير مستلقياً على الأرض، بتكوين مثلّث، ملتصق بهذه الأرض وبترابها الذي وُلد منه، ناظراً إلى الربّ مستسلماً كأنّه في غيبوبة. على اليمين ظهر الربّ مادًّا أصبعه ليبارك آدم، ويدبّ فيه الحياةـ وقد ظهرت حوّاء في الكتلة التي تضمّ الربّ والملائكة بتكوين دائريّ..
في أحد أعدادها، تناولت مجلة البوزار الفرنسيّة هذه الجداريّة تحت عنوان «ما لم تروه في سقف السكستينا..» لتثير أموراً ملفتة كان وراء اكتشافها أطبّاء معاصرون. تقول المعلومات أنّه في تاريخ 31 تشرين الأوّل من عام 1512م، كشف الفنان مايكل أنجلو عن الفريسك التي عمل عليها دون توقّف.. ذهول عام سيطر حينها على كل من رآها. وتحت عنوان «المأثرة» تذكر المجلّة كيف صوّر (رسم) أنجلو وحيداً بطول أربعين متراً (طول السقف) خلال أربع سنوات؟ التحضير لسقف السكستينا الذي طلبه يوليوس الثاني عام 1508م، هو رحلة قوّة تقنيّة بقيت غير مفهومة تماماً. الحقيقة المؤكّدة، أنّ أنجلو المعلّم، صرف مساعديه، الذين وصفهم بالمتواضعين، وقام وحده بتنفيذ السقف دون مساعدة. لكن كيف سيكون له ذلك؟ مايكل أنجلو، لينفذ ما طُلب منه، عليه رسم الفريسك، إجراء يختبره للمرّة الأولى في حياته. ثمّة معوقات وغموض في الأمر؛ فعلى ارتفاع عشرين متراً من الأرض، السقالة الغامضة مهدّدة بالانهيار! هل أراد مهندس الفاتيكان برامنت Bramente، العمل عن قصد على قتل منافسه الأكثر جدّيّة؟ هذا ممكن، كما تقول البوزار.
مهما يكن من أمر، فإنّ مايكل أنجلو انتهى به الأمر بالعمل على عوارض خشبيّة (دعامات) ناتئة، كما يقول المؤرّخ جيورجيو فازاري Vasari. لكن في أيّة وضعيّة؟
هل هو ممدّد؟
فرضيّة أخرى بدت متقدّمة غالبًا وقويّة، لقد نفّذها واقفًا؟
دون أدنى شكّ. وما ينطبق على ذلك هو الرسم الذي يعود إلى العام 1508. باستثناء أنّ الفنان كان معرّضاً للدوار (الدوخة)!
هل يظهر الربّ من دماغ الإنسان في الفريسك؟
انتباه، معرض طويل جدًّا في سقف الكنيسة لإثارة الهلوسات، وتهييج الخلايا العصبيّة؟ هذا ما تسأله البوزار. فالقضيّة بدأت حسب كاتب المقال منذ العام 1900م مع فرانك مشبرجر Franc Meshberger. هذا الشاب المتخصّص بالأمراض النسائيّة هو أمام كشف مواجه للعمل «خلق آدم» La création d`Adam: الربّ يتمركز وسط دماغ عملاق! قام شرْحُه بناء على مستند، أُعتبر مزعجاً: المجموعة المؤلّفة من الأبديّة وصحبتها الألوهيّة (ملائكة مرفقة بحوّاء أو الشيطان ليليت Lilith؟ المسألة الأخرى التي تقسم الجماعة (الباطنيّة) تلفيقات مغليّة في المخّ الإنسانيّ. الكلّ يتزامن، وصولًا إلى تفصيل هذا الملاك حيث قدَمُه (رجله) المشوّهة، مشقوقة، ترمز إلى فصّي الغدّة النخاميّة. وإذ نرى فازاري يشهد على ذلك، بأنّ مايكل أنجلو سلّم نفسه إلى دراسات تشريحيّة، من خلال تشريح جثث بشكل سرّيّ، وكذلك فعل ليوناردو دا فنشي Léonardo Da Vinci. من جهة أخرى، أليس البابا سكستين الرابع هو من رفع حظر التشريح، وسمح به إلى حدود معيّنة؟
في عام 2000، أحد أطبّاء الكلى في هيوستن بالولايات المتّحدة الأميركيّة، كان له، بدوره، رؤية مختلفة حيث لاحظ «الفصل بين الأرض والماء» La séparation entre la terre et les eaux: الربّ يسبح هذه المرّة وسط «الكلية» اليمنى المقسومة. بل إنّ هذا الطبيب ذهب بعيداً بقوله: إنّ نحّات دافيد (يعني به تمثال دافيد) كان يعاني، حسب رأيه، من حصى بالكلى - كانت تُسمّى حينها «مرض الحجر»! كذلك مع «الفصل بين الضوء والظلمات» La séparation entre la lumière et les ombres: عام 2010، طبيبان للأمراض العصبيّة، كشفا في أعلى الغدّة الدرقيّة قسماً من الحبل الشوكيّ من جذع الدماغ والتقاء الأعصاب البصريّة (تفسيرات طبّيّة لا نفقهها). وأطبّاء آخرون في ساو باولو Sao Paulo البرازيليّة، ادّعوا أنّهم اكتشفوا وجود ما يقارب الثلاثين من وجهات النظر التشريحيّة مخبّأة في الثلاثمائة من مخلوقات القبّة السامية.
أمور كثيرة وتعليقات وتفسيرات وفرضيّات وآراء حملتها هذه الجداريّة الفذّة والاستثنائيّة بمخلوقاتها وقصصها وعريها؛ الكلّ أدلى ويُدلي بدلوه، حسب موقعه وتخصّصه، كما حصل، ويحصل من آنٍ لآخر، مع عمل ليوناردو دا فنشي «الموناليزا» أو «الجوكندا»، التي كانت، وما زالت، عرضة لتفسيرات وآراء طبّيّة تحاول شرح سبب ابتسامتها الغامضة، والتي أرجعها بعض الأطباء إلى وجود آلام ومعاناة في ضرسها أو عظمها أو يدها أو وجنتها، الخ.. إن دلّ هذا على شيء فعلى امتزاج الفنون والعلوم الإنسانيّة، ولا سيّما الطبّ منها في العطاء الإنسانيّ، وفنانو النهضة خير مثال على ذلك من خلال اهتمامهم بالطبّ والتشريح.. ألم يدّعي الفنان سلفادور دالي Salvador Dali أنّ أعماله كانت وراء اكتشاف الجينة الوراثيّة؟ الخ..
حاليًّا، خمسة ملايين هو عدد الزوّار الذين يدخلون متحف الفاتيكان سنويًّا. للأسف الشديد، فإنّ عمل أنجلو هو ضحيّة الهوى، الذي يحمله الجمهور! فقد يؤدّي هذا الشيء إلى موت العمل نهاية الأمر. لقد وعى الخبراء، منذ سنوات، الكارثة التي يحملها هذا العدد الضخم من السائحين: الحضور الكبير يزيد من ارتفاع الحرارة وكمّيّة الرطوبة للقطعة. عندما نتنفّس فإنّنا ننتج أوكسيد الكربون، الذي يهاجم الطبقة اللونيّة للفريسك. لباسُنا يحمل غباراً وجسيمات تعشق المكوث على الجدران، ممّا يحدث منتوجات كيماويّة لا يمكن السيطرة عليها، لذلك، عمد مدير متحف الفاتيكان، منذ العام 2010 إلى مبدأ التنظيف الذي كان متوقّفاً العمل به لعقود. وكذلك العمل على إجراءات عنيفة ومراقبة حرارة المكان وأوكسيد الكربون للحدّ من تأثيراتها على الجداريّة.. مستقبل الجداريّة مهدّد..
* د. يوسف غزاوي (فنان تشكيليّ وباحث)
المصدر: صحيفة اللواء
موضوع ذات صلة:
إعادة افتتاح كنيسة «السكستينا» بعد انحسار الجائحة: مايكل انجلو معاصرنا
فيديوهات تحاكي ذات الموضوع:
تعليقات: